شأن التصحيح قديم، وهو فنّ لا بدَّ منه، لكل العلوم، وليس للغة والأدب فقط، ويتأكد للفنون الأخرى إذا كان أصحابها غير ماهرين في اللغة، فتكثر الأخطاء، ويقلُّ الربط الحيوي بين الجمل، وتزداد الركاكة مع اللحن.
وإذا كان سلفنا يقرؤون كل العلوم حتى يتخرجوا ويحصلوا على إجازة، فإن الخلف تخصص في علوم دون أخرى، وبذلك يفقد غالبهم المهارة في اللغة، ويصبح ضعيفاً فيها، فتزداد أهمية التصحيح هنا.
وكان التصحيح في القرن الفائت وخاصة العقود الأولى منه، مقتصراً على النحويين واللغويين المتمكنين، فما كنت تجد في الكتب القديمة خطأ، لكن في العقود الأخيرة صارت التجارة حتى في اللغة، فيُعطى الكتاب لماهر في اللغة ولغير ماهر فيها، فتصدر بعض الكتب بتصحيح لا بأس به، وأخرى تضحك منها، أو ترميها من يدك لكثرة الأخطاء فيها، إذ يبدو أن كتّابها لم يتجاوزوا في معرفتهم اللغوية المرحلة الابتدائية، أو حتى ما دونها، لأن التلاميذ في هذه المرحلة يتعلمون الأسس والمهمات من اللغة!
ومن الغبن هنا الحكم على شخصية المؤلف اللغوية، أو ثقافته النحوية، إذ لا يبدو من وراء كتابه أو كتبه أنها من إنشائه اللغوي، بما أن الكتاب يمرُّ تحت يدي المصحح. وقد صححتُ كتبًا، فما كان يمرُّ بي سطر أو سطور قليلة إلا وأجد فيها خطأ أو أخطاء، إلا ما ندر!
كما أن هناك كتّاباً مقتدرين يعانون من لعب المصححين، فهم أصناف، وثقافتهم اللغوية غير متجانسة، فبعضهم لا يملك سوى ثقافة لغوية متواضعة، وبعضهم لا خبرة له فيها ولا تجربة، بل دراسة نظرية فقط، والتصحيح فن وخبرة إلى جانب العلم، ومن لم يمارسه لا يكون مصححاً متمكناً.
كما أن هناك مصححين متقعرين ومجادلين، فينضوون تحت اجتهاد مدرسة لسانية، أو أنهم أُعجبوا بأشخاص وكتاباتهم فقلدوهم، أو أخذوا باجتهاد مجمع دون آخر، أو أخذوا من هذا مرة ومن ذاك أخرى بدون مبدأ أو قاعدة، وخاصة مسميات العلوم والفنون والمخترعات الجديدة، المختلف في تسمياتها أحيانًا، أو هي بدون مسمى عربي أصلاً.. فيفرضون نظراتهم اللغوية المقلدة أو غير المحكَّمة على الكتّاب، ويغيرون ألفاظًا أو جملاً إذا لم تكن موافقة لاجتهاداتهم، وإن كان لها وجه أو وجوه في اللغة.
وهذه سيئة من سيئات التصحيح، فالكاتب يريد أن يصبغ كتابه بألفاظ وتراكيب لغوية مقصودة تناسب موضوعه، وأداءه وأسلوبه، فيتدخل فيها المصحح ويخلط...
والحق أن المصحح ينبغي ألا يتدخل سوى في الأخطاء المطبعية والإملائية (المتفق عليها) والنحوية الواضحة، أما ما كان منها ذات أوجه واحتمالات، وأجازتها مجامع ولم تجزها مجامع أخرى، أو نقدها عالم لغوي متمكن وأجازها آخر في مثل درجته، فليس للمصحح أن يتدخل فيها أبداً، وإنما يتركها، والكاتب هو الذي يتحمل مسؤوليتها، ويدافع عن نفسه إذا نُقد فيها، فإذا كان تدخلاً من المصحح فماذا يفعل؟
وبالنسبة للكتّاب البارزين، لا يصحح لهم المصحح شيئاً إلا بإذنهم؛ لأنهم في العادة يكونون أقل خبرة وعلماً من المؤلفين.
وعلى كل حال تُقدَّرُ جهودُ المصحِّحين، حرّاسِ لغة القرآن الكريم، الذين لولاهم، لما كانت كتب كثيرة تُقرأ أصلاً.
ومعظمهم أصحاب دين، وثقافة، يدلُّون الناشرين على مواضع في الكتاب، فيها انحراف عن العقيدة، أو أخطاء علمية، ولهم صبر عجيب على متابعة القراءة، والغوص في المعاني، ودلالات الألفاظ، ووجوه الإعراب... ومنهم علماء تفتخر بهم الأمة. حفظهم الله جميعًا، وسدَّد خطواتهم، وألهمهم العمل الصالح.