من سمات الأمم المغلوبة أنها تقلِّد الأمم القوية حتى في لغتها، وإن كانت لغتها الأصلية سليمة لا شائبة فيها، ويفهمها شعبها كله، بينما هي لا تفهم إلا القليل من اللغة الأخرى، ولكنها لوثة التقليد، وضعف الشخصية، والتذلل للقوي بدل الإيقاع به أو التفوق عليه، والهوس بالجديد، وانتظار ما يأتي من هناك دون إبداع ما يمكن من هنا والثقة به.
ولا يحتاج المرء إلى إثبات ما بلغته بعض شعوبنا الإسلامية من التغلب على أمرها في شأن لغتها، ففي معظمها يُفرض تعلم اللغة الإنجليزية من أول يوم يطأ فيها التلميذ بقدمه عتبة المدرسة، وفي جامعات منها تكون هذه اللغة هي الأساسية في التعلم، ولا يُسمح فيها بلغتها الأساسية أصلاً، كما في بلدان عربية تدرَّس فيها المواد العلمية، وقد اعتبر أحد كبارهم أن دراسة العلوم الطبية والهندسية باللغة العربية تخلف ورجوع إلى الوراء!! وأمثال هؤلاء المقلِّدين المغلوبين هم أركان تخلفنا.
ومن الناحية الشعبية، أو الاجتماعية العامة، يجد المرء مصداق طغيان التقليد في اللغة واسعاً ومنتشراً، كما في أحاديث مجالس المتفرنجين خاصة، الذين يتقصَّدون استعمال كلمات أجنبية في أحاديثهم لبيان أنهم متغرِّبون، ومن أهل الموضة أو الميوعة!
وأية جولة في أنحاء الأسواق بأنواعها يجد المرء الأسماء الأعجمية المنتشرة على اللوحات المختصة بمحلاّتها، أو الإعلانية منها، المثبتة على الأرصفة، أو المبثوثة في الوسائل الدعائية الحديثة، وصارت هذه الأسماء مستساغة عند كثير من الناس، لانتشارها، ولعدم مواكبة مجامعنا اللغوية لما يقابلها ثم طرحها في الساحة الإعلامية بلغتنا العربية قبل فشوِّ الأجنبية منها، أو لتقصير مؤسسات الدولة في فرض ما يقابلها بالعربية على وسائل الإعلام ومراكز التجارة، ولو وضعت مخالفة واحدة على تاجر لتركها مائة تاجر وألف، ولكنها لا تفعل!!
ولا نحتاج إلى تحديد بداية أو نهاية لنأتي بأمثلة تطبيقية على ما ذكرنا.
وكان من حظ هذا المقال أن بدأت بكتابته وأنا أتعبَّدُ في المسجد الحرام، ولما خرجت من باب التوسعة منه، وكان أثر المقال ما زال في ذهني، اصطدمت عيناي بهذه اللوحات الأجنبية الكبيرة: فندق التوحيد أنتركونتننتال!
هكذا مرة واحدة! التوحيد، هذا المصطلح الإسلامي الجليل، يُقارن به مصطلح أجنبي غريب وثقيل على اللسان العربي، ولكنهما مع ذلك التقيا في هذا الجيل الغريب مثله! وأين؟
وعلى يمينه (موبايلي).
وعلى يساره: رولكس، ثم هارديز، ثم كنتاكي... وبينهما أسماء عربية.
وكلمات أخرى في شوارعها: الأصيل بلازا، مياه سفكو، لابا، أكستريمر...
وفي المدينة المنورة: المدينة هيلتون، الإيمان كونتننتال، المدينة موفنبيك، فايندرا، رويال ديار..
وفي غيرها: كريتيفيتي، تلي موني، نوبلز.
وفي سوق الاتصالات: باقة برود باند تجمع بين DSL وكويك نت (لا أدري لماذا لم تكتب بالإنجليزية ما دامت كلها بالإنجليزية!) قرين أبل، مركز نيولرن، صيانة دانسات...
ومن الكلمات الأعجمية المنتشرة على الألسنة، التي لا تكاد تجد أحدًا يتلفظ بما يرادفها بالعربية، ولا يعرفها معظم الناس: الراديو، التلفون، الإنترنت، بلوتوث، الأوفست، الإلكترونيات، الألمنيوم، التلفزيون، الكاميرا، الأستديو، الكاونتر، الكمبيوتر، الماركة، ليموزين، سوبرماركت... وغيرها الكثير..
وبعضها لا يسمح بتغيير أسمائها، أو هي لا تُعرف أنها المقصودة إذا تُرجِمَ لفظها إلى العربية؛ لأنها شركات وأنظمة عالمية مسجلة ومنتشرة عالميًا..وهذا يدلُّ على طغيانها.
ولو تخيلت أنك ستلتقي بجماعة من القرون الماضية، وتتحدث لهم عن أحوال من قرننا، فلن يفهموا منك الكثير، ولو تكلمت الفصحى! فإذا تحدثت عن السيارات وأنواعها، فأي سيارة تحمل اسماً عربياً؟ وإذا تحدثت عن قطع غيارها فلن تجد منها بالعربية إلا القليل، وإذا وُجدت فمولَّدة. ولو تحدثت عن البترول (أعني النفط، أعني المحروقات)، وتحدثت عن مشتقاته، فهل تذكر الأسماء العربية للبنزين والكاز والمازوت؟
والطائرات وأنواعها، والعملات، ومواد البناء، والمخترعات الصناعية... وأنواع علمية عديدة، من النباتات والأسماك والحيوانات الصغيرة والكبيرة، وعناصر المواد (الأكسجين والهيدروجين...)، والكيلو غرام، الكيلومتر... والنظريات والمذاهب السياسية...
ولا شك أن أصحابك سيعجبون من حديثك ويقولون: هل هذا من العرب أم من العجم؟ فمن المعروف أن الأعجمي يستعمل كلمات كثيرة من لغته ويضعها بين العربية... وهذا ما صار من شأن العرب في لغتهم!!
لقد امتلأت حياتنا بالكلمات الأعجمية... فهل من غيور، وهل من منقذ؟