مقام السجود

مقامُ السجود لربِّ العباد مقامٌ عظيم.

لا يدركه إلا المؤمنُ الحق، المستسلمُ لله رب العالمين، العارفُ بمعناه، الغائصُ في أسراره.

والحركة لا معنى لها ما لم تكن مصحوبةً بنيَّة وفهمٍ يدلُّ عليها.

وحركة السجود مع كلماتٍ في أثناء السكون، هي أعظم دلالة على معناها وأسرارها.

ففيه يقال: "سبحان ربيَ الأعلى".

والكلمة الأولى تنزيه لله تعالى من الشريك، ومن كلِّ نقص، ومن كلِّ ما لا يليق بجلاله وعظمته.

والربُّ هو المنعمُ والرازق، وهو الخالق والمدبِّر، والمحيي والمميت، والذي بيده كلُّ شيء، فهو المتصرف وحده سبحانه في الكون كله، لا يشركه في ذلك أحد.

وهو العليُّ الأعلى، الذي ليس فوقه شيء، المتفرِّد بالعلوِّ والعظمة، ومهما علا الإنسان فلا يتجاوز مقام العبودية له.

وكلُّ هذه المعاني العظيمة تُقال في مقام السجود، الذي يعني العبادة لله بأكبر دلالة عملية، والاعترافَ بالذلِّ له سبحانه، فهو الخالق البارئ، والربُّ الأعلى، الذي خلق البشر ليعبدوه، فمن استجاب لأمره وعبدهُ وصدق في عبادته سجدَ له اعترافاً بالعبودية الحقة له سبحانه، ومن أبَى السجود فقد تكبَّر واستعلى على الربِّ الأعلى، وكان على شاكلة إبليس اللعين، المطرودِ من رحمةِ ربِّ العالمين.

أما أمرُ السجود وأحواله عند أهل الإيمان والولاية والسكينة، فلا أعجب منه ولا أجلّ!

وخاصة إذا خلوا في صلواتهم مع ربهم ولم يكن عندهم أحد، والناس نائمون أو لاهون.. عند ذلك يمرِّغون جبهاتهم بالتراب ويستكينون له سبحانه، في أروعِ منظر للعبودية الصادقة، ويسبحون الربَّ الأعلى من أعماق قلوبهم، ويشعرون بالقرب منه أكثر، ويملأ النور أفئدتهم، وتنحدرُ الدموع من عيونهم، ويقشعرُّ كلُّ جزء في أبدانهم، وينطلقون في مشاعرهم إلى عوالم ملائكية ونورانية، وتخفُّ أرواحهم بهذا فلا يشعرون بثقل الجسد الذي يحملهم، ويتحولون إلى قطعة من الإيمان تملأ كيانهم كلَّه، فيرتوون من هذا الجلال والصفاء والنقاء، حتى تكتنفهم السعادة من جميع جوانبهم، وتغمر أنحاءهم كلَّها، وهي سعادةٌ لا تشبه سعادةً بمال أو دنيا، بل هي أعلى وأكبر، وهي التي لو قاتلهم الملوكُ عليها الملوك لم حصَّلوا مثلها.

إنه المقام الجليل في السجود، الذي لا يشبهه ولا يضاهيه مقامٌ آخر..

وهو الذي يكون فيه المرء أقربَ ما يكون من ربه، كما في الحديث الصحيح "أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى الله وهو ساجد".

وصحَّ في الحديث أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "أقربُ ما يكون الربُّ من العبدِ في جوفِ الليلِ الآخِر". 

إنه الاعتراف في ذلٍّ بعظمة الخالق وجبروته وكبريائه، من جنسٍ حرٍّ بين مخلوقاته.

وإنه طريق معبَّد للمرور إلى الجنة إن شاء الله...

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

ووفقنا لأفضل مقامات السجود لك، يا عليُّ يا عظيم.