الضعف في الولاية

أبو ذرٍّ رضيَ الله عنه، مع كلِّ ما أوتيَ من علمٍ وإخلاص، ومشاركةٍ في الدعوةِ والجهاد، وصبرٍ ومصابرةٍ على الجهرِ بالحقِّ والنهي عن المنكر، وصفَهُ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ بأنه "ضعيف"، ونصحَهُ بأنْ لا يتولَّى أمورَ الناس، ولا حتى أموالَ اليتامى!

"يا أبا ذرّ، إنِّي أراكَ ضعيفًا، وإنِّي أحبُّ لكَ ما أُحبُّ لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنينِ، ولا تَوَلَّينَّ مالَ يتيم". صحيح مسلم (1826).

قالَ الإمامُ النوويُّ رحمَهُ الله تعالَى في هذا الحديثِ أو في آخرَ مثله: هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ في اجتنابِ الوَلايات، لا سيَّما لمن كان فيه ضعفٌ عن القيامِ بوظائفِ تلك الأمانة([1]).

والمقصودُ بالضعفِ هو عدمُ قدرةِ الشخصِ على تحمُّلِ مسؤوليةِ المنصبِ عقليًّا أو نفسيًّا. فليسَ لديه إمكانيةٌ على استيعابِ الأمورِ والفصلِ بينها، أو لا خبرةَ له فيها، أو لا يتواصَلُ مع المجتمعِ ومشكلاته، أو لا يتحمَّلُ أن يرَى مظاهرَ الفتنِ والدماء، ولا يعرفُ سياسةً مدنيَّةُ أو عسكرية.

وهذا مشاهَدٌ في حياتنا الواقعيةِ وعلى مدَى التاريخ، فهناك من يضيقُ بحملِ مسؤوليةِ أسرةٍ واحدة، أو يضيقُ ذرعًا بمراجعةِ الناسِ في فرعٍ من مؤسسة، وغيرهُ يتحمَّلُ مسؤوليةَ قبيلةٍ كبيرة، أو مدينةٍ أو دولة، ويفتحُ ذراعيهِ للاجتماعِ بفئاتِ الناسِ المختلفة، ويحلُّ مشكلاتهم..

وقد فسَّرَ القرطبيُّ ضعفَ أبي ذرٍّ رضيَ الله عنه بسببِ نهجهِ الشخصيِّ في الحياة، وعدمِ قدرتهِ على مراعاةِ مصالحِ الناس، فقال رحمهُ الله:

"أراكَ ضعيفًا": أي ضعيفًا عن القيامِ بما يتعيَّنُ على الأميرِ من مراعاةِ مصالحِ رعيَّتهِ الدنيويةِ والدينية.

ووجهُ ضعفهِ عن ذلك أن الغالبَ عليه كان الزهدَ واحتقارَ الدنيا، ومَن هذا حالهُ لا يعتني بمصالحِ الدنيا ولا أموالها، اللذين بمراعاتهما تنتظمُ مصالحُ الدين، ويتمُّ أمره.

وقد كان أبو ذرٍّ أفرطَ في الزهدِ في الدنيا، حتى انتهَى به الحالُ إلى أن يُفتيَ بتحريمِ الجمعِ للمالِ وإن أُخرِجتْ زكاته، وكان يرى أنه الكنزُ الذي توعَّدَ الله عليه في القرآن، فلمّا علمَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم منه هذه الحالة، نصحهُ ونهاهُ عن الإمارة، وعن ولايةِ مالِ الأيتام، وأكدَ النصيحةَ بقوله: "وإني أحبُّ لكَ ما أحبُّ لنفسي".

وأما من قويَ على الإمارةِ وعدلَ فيها، فإنه من السبعةِ الذين يظلُّهم الله في ظلِّه([2]).


([1]) شرح النووي على صحيح مسلم 12/210.

([2]) أورده له السيوطي في شرحه على سنن النسائي 6/255.