وجه آخر للهدية

ردُّ الهديةِ في الأحوالِ العاديةِ والمناسباتِ صعبٌ جدًّا،

وقد لا يخطرُ على بالِ أحدٍ أن يردَّ هدية،

فهي محبَّبةٌ إلى النفوس،

وتَبعثُ البهجةَ في القلوب،

وتُذهِبُ الوحْرَ من الصدور،

لكنها في مجالِ الحربِ والسياسةِ شيءٌ آخر،

وفي مجالِ العملِ والوظيفةِ كذلك،

إذا كانت بمثابةِ الرشوة،

فالأمرُ عندئذٍ يتعلَّقُ بالأمانةِ والمبدأ،

وقد ردَّ نبيُّ اللهِ سليمانُ هديةَ ملكةِ سبأ،

أعني لم يكترثْ بها،

ولم يقبلْ هذه السياسةَ العاطفيةَ اللينة،

وسياسةَ المهادنةِ والمصانعة،

سياسةَ الهدايا،

في حربِ الإيمانِ ضدَّ الكفرِ والشرك،

 وكان هدفُ الملكةِ أن ينكشفَ لها غرضُ سليمانَ عليه السلام بهذه الهدية:

{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [سورةُ النمل: 35]،

فلمّا وصلتْ إليه الهديةُ قال:

{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}،

قال الفخرُ الرازيُّ في تفسيرهِ الكبير:

"أي أن الله آتاني من الدنيا ما لا مزيدَ عليه،

فكيف يُستمالُ مثلي بمثلِ هذه الهدية،

بل أنتم تفرحون بما يُهدَى إليكم،

لكنَّ حالي خلافُ حالكم".

ثم أنذرَ بالحرب،

وهدَّد بما لا طاقةَ لهم به إذا لم يجيؤوا إليه مسلمين،

فردَّ هديتَهم،

ولم يقبلْ منهم إلا الإسلامَ أو السيف،

فاستسلمتِ الملكةُ وأسلمت،

وأسلمَ قومُها،

على الرغمِ من إشارتهم أولًا إلى أنهم أقوياءُ قادرون على الحرب،

لكنها عرفتْ بذكائها أن أمرَ سليمانَ له شأنٌ آخر،

غيرُ ما هم عليه من قوة.

فالهديةُ مستحسنة،

إذا لم تَحُلْ بين المرءِ وبين وظيفتهِ الأساسية،

ولم تكنْ سببًا لخيانةٍ أو غشّ،

أو مهادنةٍ مع الباطل،

وطمسٍ للحقّ،

أو تغييرٍ وانحرافٍ عنه.