طاعة فنظام

 عندما تكون هناك طاعة يكون هناك نظام.

وهذا نموذج عملي من السيرة النبوية يبيّن فائدة الطاعة وآثارها الطيبة، وكيف أنه يعقبها تطبيق ونظام يلمُّ الشمل ويفرح النفس.

تذكرت هذا ونحن في تفرق وتشرذم، أورثَنا ضعفًا وهوانًا. فلعلنا نتذكر ونعتبر.

روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال:

كان الناس إذا نزلوا منزلًا تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله ﷺ: "إن تفرقَكم في هذه الشعابِ والأوديةِ إنما ذلكم من الشيطان".

قال: فلم ينزلوا بعدُ منزلًا إلا انضمَّ بعضُهم إلى بعض، حتى لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم!

 

رواه ابن حبان في صحيحه (2690) وقال محققه الشيخ شعيب: إسناده صحيح، وكذا قال محققو مسند أحمد فيه (17736).

 

أي أن الصحابة رضوان الله عليهم إذا كانوا في سفر ونزلوا للراحة تفرّقوا في الطرق المتشعبة في الجبال وفي الأودية، فبيَّن لهم رسول الله ﷺ أن الشيطان يحملهم على هذا التفرق؛ ليخوِّف أولياء الله، ويحرك أعداءه.

وقال الصنعاني رحمه الله: "إن تفرقكم هذا من الشيطان" أي: لما يُخاف من وجود الأعداء وهم متفرقون، فيأخذهم على غفلة، وكأن قرب بعضهم سبب لانتفاع بعضهم ببعض، وتعاونِهم على ما فيه نفعُهم ودفعُ الضرّ عنهم.

قال: وفي الحديث بيان امتثال أصحابه ﷺ له، وإقبالُهم على ما يحثهم عليه. اهـ.

ولكنَّ ابن رسلان الشافعي رحمه الله بيَّن خفايا الموضوع وآثار التفرق السيئة بين الصحابة أكثر، حتى نعرف الحكمة من قول الرسول عليه الصلاة والسلام..

فقد ذكر أن الصحابة كانوا في غزوة، وأنهم كانوا ينزلون متفرقين يطلبون الظلال ليرتفقوا بها، لما ينالهم من مشقة السفر، فلما كانت الغزوة التي غزوها قِبلَ نجد، ونزل النبي ﷺ في الوادي، وتفرق الناس عنه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله ﷺ تحت شجرة وعلَّق سيفه، أتى أعرابي والنبي ﷺ نائم، فأخذ السيف، فاستيقظ وهو قائم على رأسه، والسيف صلت في يده، فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله".

فقال رسول الله ﷺ بعد ذلك: "إن تفرقَكم في هذه الشعابِ والأوديةِ إنما ذلكم من الشيطان".

أي أن تفرقكم ينتج عنه تفرق قلوبكم، فإن الافتراق هلكة، والاجتماع نجاة ورحمة، فإن المؤمنين كالبنيان يشدُّ بعضهم بعضًا.

والشيطان يدعو إلى التفرق ليتخلل في فُرَجِكم إذا تفرقتم، ويطمعَ فيكم العدو.

ويعني أن تفرق الصحابة في الأودية والشعاب هو الذي حدا بالأعرابي المشرك ليخترق الجيش ويصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ويأخذ سيفه وهو نائم ليقتله به، ولو كانوا مجتمعين غير متفرقين عنه لما وصل الأعرابي إليه.

فلم ينزلوا بعد ذلك الذي نهاهم فيه الرسول ﷺ عن التفرق منزلًا واحدًا إلا انضمَّ بعضُهم إلى بعض، امتثالًا لأمره، حتى يقول القائل إذا رآهم منضمِّين: لو بُسِطَ عليهم في حال انضمامهم ثوبٌ واحد لعمَّهم وشملهم جميعَهم.

وهذا يدلُّ على فضل الصحابة وشدة اعتنائهم بالدين، وحرصهم على العمل بما أُمروا به، ومبادرتهم إلى ترك ما نُهوا عنه، جعلنا الله كذلك. آمين.

 

(ينظر شرح الحديث عند القاري في مرقاة المفاتيح (6/2519)، والسندي في فتح الودود (3/97)، والصنعاني في التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 672)، وابن رسلان في شرح سنن أبي داود (11/ 376).

 

محمد خير رمضان يوسف