يورد بعض المحدَثين كلام أبي الدرداء رضي الله عنه: "أجمُّوا النفوسَ بشيءٍ من الباطلِ ليكونَ عوناً لها على الحقّ".
ومعنى "أجمَّ الإنسان": استراح فذهب إعياؤه.
وقد توقفت عند هذا الكلام طويلاً، إذ كيف يدعو صحابي جليل عُرف بزهده وتقواه إلى الترفُّه بعملٍ باطل؟!!
والذي وقفت عليه أولاً هو ما ذكره له ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة"، أورده بسنده، ولكنه لم يكمله، ففيه انقطاع، وهو قوله: "... عن عائذ بإسناد يرفعه إلى أبي الدرداء" هكذا فقط.
والذي يرد بسند صحيح من قوله –كما ذكره باحث- هو بلفظ: "إني لأستجمُّ ليكونَ أنشطَ لي في الحقّ" كما رواه الدوري في تاريخ ابن معين، وراويه عنه هو عمير بن هانئ، وهو تابعي ثقة (127هـ) لم يسمعه من أبي الدرداء (المتوفى سنة 32هـ)، بل بلغه عنه.
فليس في نصه "بشيءٍ من الباطل" كما ذُكر في الأول. وهذا ليس فيه شيء، ولكن المناقشة هو في طلب الراحة بالباطل.
والأثر بتمامه كما أورده ابن حزم، لكن بإخبار أبي الدرداء عن نفسه، يردُ بغير سند في كتب أدبية، مثل البخلاء للجاحظ، والحمقى والمغفلين لابن الجوزي، وبهجة المجالس لابن عبدالبرّ.
ومن الكتب الدينية: إحياء علوم الدين للغزالي، وتأويل مختلف الحديث للخطيب.
ذكر هذه المصادر عبدالحق التركماني في تعليقه على كلام ابن حزم في "مختصر طوق الحمامة".
ولكنه لم يوفق فيه، فقد ذكر أن الذي ورد بلفظ ابن حزم هو في المصادر السابقة، ويفهم منه أن فيه لفظ "الباطل"، وقد وقفت على نصوص بعض المصادر المذكورة وليس فيها كلمة "الباطل"، وهي جميعها تذكر بدون سند (أعني فيما وقفت عليه منها).
واللفظ في الإحياء: "إني لأستجمُّ نفسي بشيءٍ من اللهوِ لأتقوَّى بذلك فيما بعدُ على الحقّ".
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي 5/ 421: "إني لأستجمُّ ليكونَ أنشطَ لي في الحقّ". فهذا وذاك ليس فيهما لفظ "الباطل"، ولفظ "اللهو" الوارد في الإحياء لا يفيد الحرام والباطل، فقد يكون اللهو مباحًا وقد يكون محظورًا، وفرق كبير بين أن يكون الاسترواح بلهو مباح وبين أن يكون بلهو باطل، ولا يتصور صدور القسم الأخير من الكلام من صحابي جليل. وإن هذا أشبه ما يكون بطلب التداوي بالحرام للمريض، وهو مردود بأمور:
- ضابط المداومة على الجد في العمل الصالح خشية الملال هو الحاجة، مع مراعاة وجوه النشاط، وهو يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، كما أفاده ابن حجر في شرح حديث ابن مسعود "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظةِ في الأيامِ كراهةَ السآمةِ علينا" في فتح الباري.
فليس كلُّ شخص يسأم، وبميزان واحد، بل هي طبائع، وهمم!
- لم يجعل الله تعالى فيما حرمه على ابن آدم دواء له، سواء أكان ذلك جسمياً أم نفسياً، فلا فرق بينهما، والحديث في ذلك ظاهر، فيقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى خلقَ الداءَ والدواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام". رواه الطبراني من حديث أم الدرداء، وصححه له في صحيح الجامع الصغير (1762).
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن الله لم يجعلْ شفاءكم فيما حرَّم عليكم" رواه له البخاري في صحيحه.
وواضح إن الاستشفاء لا يجوز بالقليل كما لا يجوز بالكثير، فقد صح أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكرَ كثيرهُ فقليلهُ حرام". رواه الترمذي وأبو داود والحاكم وغيرهم.
هذا، ولا تُنكر الفائدة من أدوية فيها محرَّم، فإن في الخمر أيضاً منافع، ولكن قدرها قليل، في مقابل طغيان ضررها. يقول ربنا عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [سورة البقرة، الآية 219].
فمن مضار الخمر أن فيها ذهاب العقل والمال والدين، ولها منافع جسمية ونفسية مؤقتة، كالهضم والطرب... وهي أمُّ الخبائث.
وكذلك يقال في اللهو الباطل، الذي قد يجلب بعض النشاط لصاحبه، لكن فيه مضرَّة أكبر. وضرر الحرام مؤكد، ولم يحرِّم الإسلام إلا ما فيه ضرر. ومن ضرر اللهو الباطل أنه ينزل من درجة الإيمان، ويوجب الإثم، ويورث الفسق، ويتعوَّد عليه، وقد يفتح للشخص "آفاقاً" أخرى في الحرام، فإن الشيطان ينتظر من المؤمن لفتة صغيرة إلى الحرام، ليبدأ معه برنامجاً طويلاً وبأساليب متنوعة ومغرية ليتوسَّع فيه.
وإذا قال العلماء بالتداوي بالنجاسة إذا لم يجد المريض طاهراً يقوم مقامها، فإذا وجدت حرمت النجاسة بلا خلاف، كما يقول النووي في "المجموع"، فإن الاسترواح بالحلال والترفه بما هو مباح، بابه أوسع وأشمل من أن يطلب بدلاً منه اللهو الباطل والحرام.
- فما أباحه الإسلام من اللهو الحلال كافٍ، وهو أيضاً يجلب الأريحية والنشاط للإنسان، وليس فيه ما في اللهو الباطل من ضرر، ففائدته مؤكدة دون ضرر، وفائدة الآخر قليلة وملغومة.
- وأذكر أمراً آخر، وهو أن اللهو الباطل قد يدخل مع الحلال بدون إرادة الإنسان، فيكون له نصيب من هذا وذاك.. كما في الألعاب، والقنوات الفضائية، وجلسات بعض الأصدقاء.. التي يتفاجأ فيها المرء بمناظر وأحاديث غير لائقة أو محرمة... ولذلك كان أهل العلم والتقوى يذرون كثيراً من الحلال خشية أن يلحقهم شيء من الحرام. والحرام ليس في الحلال، ولكنه يأتي من جنبات الطريق.
وفي كل الأحوال، فإنه لا بد للإنسان من أن يقع في مكروه أو حرام، والأمر كله اختبار وابتلاء.
{إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [سورة الأعراف، الآية 155].