شجع علماءُ الإسلامِ على التأليف بقصد نشر العلم والدين الحق، ومن باب الأجر الكبير عليه، فإنه ينتج منه وقف الكتب مثلاً، ويكون ذلك من الصدقة الجارية. وكان الإمام ابن الجوزي يفضل التأليف على المحاضرات ومجالس الوعظ، ويقول إنه بذلك يخاطب أقواماً وأجيالاً لم يولدوا بعد، كما حثَّ على كثرة التأليف في الإسلام أحد الأئمة الأعلام من باب إصابة الحق ونشره. ولمـّا عوتب أحدهم على كثرة الكلام، قال لهم: أتسمعون حقاً أم باطلاً، قالوا: بل حقاً. قال: فإن الإكثار من الصواب خير، أو كما قال. والتأليف مثله.
وتاريخنا الإسلامي مليء بأعلام المصنفين، وقد تجاوزت مؤلفات بعضهم الخمسين والمئة والمئتين والألف، وأخبارهم في هذا تبعث على الفخر، كما تثير في النفس الاستفهام والتعجب، والسؤال عن سرِّ هذه الكثرة من المؤلفات؟
- لنقل أولاً إن التأليف موهبة من الله تعالى، فلا يقدر كلُّ أحد أن يؤلف، وكثير من الناس لا تتجاوز مؤلفاتهم عدَّ الأصابع، وهؤلاء ربما ألفوا لمناسبة، أو للحصول على شهادة، أو لترقية، أو أنهم في موقع يطلب منهم أن يكتبوا في الموضوع، رأياً، أو تقريراً، أو تصويباً، وما إلى ذلك، وهناك أعلام كبار لم يؤلفوا كتباً، أو أنهم تركوا رسائل صغيرة، ويقول بعضهم عن سبب ذلك إن المؤلفات كثيرة، فلا حاجة لأن يؤلف، أو أنهم متفرِّغون لتربية الرجال وليس للتصنيف، وما إلى ذلك. والحقُّ أنهم لم يؤتَوا موهبة الكتابة، ولو أوتوها لما قدروا على الابتعاد عنها، فإن صاحب الموهبة يبرز موهبته بأي شكل كان.
- الصبر أدب مهم في العلم، وخاصة في التأليف، فإن هناك مسائل عويصة تُبحث، وتحتاج إلى تثبت وإحاطة بجوانب الموضوع، وهذا يحتاج إلى جهد ومثابرة ومتابعة، وإلى شهور أو سنوات. وإذا تحولت المهمة إلى موضوع جديد لم يُبحث من قبل، أو إلى موسوعة، أو جمع شتات علوم، فإنها قد تتطلب رحلة العمر. والتاريخ يحتفظ بأسماء كثير من المصنفين لهم قصص مؤثرة وبعضها نادرة عن مؤلفاتهم، بحثتها في كتاب "دوافع البحث والتأليف عند المسلمين"
- الاستمرار والمثابرة، يعني المتابعة، فلا يدَعُ المصنِّف مجالاً للكسل واليأس يدخل نفسه فيوهنها عن المتابعة، ولا تضعف همَّته، ولا يخبو وميض فكره، بل يدَعُ قلمه يسيل، ويتعهده في كل مرة. أذكر من ذلك حكمة أو نصيحة استفادها الإمام الشوكاني من أحد مشايخه، عندما ذكَّره بأن لا يدع الكتابة في حياته ولو كتب في اليوم سطراً، فإنها بعد سنوات تكثر وتجتمع وتتكامل...
- التفرُّغ للعلم، يعني أن تجعله همَّك الأول وشغلك الشاغل، فإنك إذا لم تعطه كلَّك لم يُعطك بعضه. وقد أنجز كثير من الأعلام كتباً صارت مراجع علمية على طول التاريخ، فكان هؤلاء أوفياء للعلم، وما كانوا يدَعون شيئاً يؤثِّر سلبًا على سيرتهم العلمية من أعراض الدنيا وزينتها، وما كانوا يهتمون بالأطعمة والملابس والمساكن الفاخرة، بل همهم تحصيل العلم والإفادة. ومن نوادر هذه الأخبار أن أبا الوفاء بن عقيل (صاحب أضخم كتاب في تاريخنا، هو كتاب الفنون) يذكر من أحواله العلمية أنه كان يسفُّ الكعك بدل مضغ الخبز، لأنه أسرع مضغاً، مما يوفِّر عليه وقتاً للمتابعة والكتابة!
- الانعزال عن الناس والتعلق بالعلم وحده، كما فعل الإمام السيوطي، فإنه كان لا يجيب حتى طلب السلطان، فوفِّق في التأليف، حتى كان أكثر الناس تأليفاً في التاريخ...
ولا يعجبنَّ القارئ من ذلك، ولا يقل إنه صعب وشيء مستحيل، فإنه يوجد حتى في عصرنا من يكتب يومياً مقالاً، بل مقالين لصحيفتين، إضافة إلى مقالات أسبوعية، وأخرى شهرية، ويؤلف كتباً، مع مسؤوليات أخرى، إدارية واجتماعية.