الوقف أحد أبواب الخير التي فتحها الله لعباده، وشرعه لهم ليؤجروا عليه، وهو أبرز أنواع الصدقات الجارية، فإنه يفيد صاحبه حياً وميتاً، ويأتيه الثواب الجزيل وهو في القبر، وتدرُّ عليها الحسنات وقد انقطع عن الدنيا، ولكن لم تنقطع أعماله الخيرة، فيكون وكأنه ما زال يعمل وينتج، ويدعو ويفيد ويتصدَّق.
ومن ذلك وقف الكتاب، الذي يعتبر أجلَّ ما يوقف من الأمتعة والعروض؛ لما يُنتظر منه الثواب الجزيل، فإنه وسيلة للتعلم والتثقيف، فيُتعلَّمُ به، ويُنشَر ما فيه، والذي تلقّاه يستفيد منه ويفيد به. وهكذا ينتشر العلم والخُلق والدين، فتزداد الحسنات، وتكثر إلى درجة عظيمة، لا يعلم حجمها إلا الله تعالى؛ وبذلك تُعرف فضيلة وقف الكتاب، التي انتشرت منذ القرون الأولى في الإسلام، بوقف المصاحف أولاً، ثم الكتب الدينية، من علوم القرآن والتفسير والحديث، والعقيدة والسلوك، ثم الكتب اللغوية والتاريخية وما إليها، بل أُوقفت مكتبات بكاملها، وفيها من كنوز العلم الكثير، وبها حُفظت لنا كتب لم توجد في غيرها، أو نسخ نادرة لمؤلفيها، أو لتلاميذهم المقربين، أو نسخ نفيسة لسلاطين ووجهاء وأكابر، فصارت بعد الاستفادة منها تحفاً وآثاراً يُفتخر بها.
ومن المؤسف أن تقلَّ هذه السنَّة الحسنة في عصرنا، وقد كانت كثيرة في عهد أسلافنا، وقد نشأتُ في بلدة كبيرة لم أعرف فيها شيئاً اسمه "الوقف" لا متاعاً، ولا بيتاً، ولا كتاباً، ولا حتى مصحفاً!
والسبب في هذا هو انتشار الثقافات القومية والحزبية والعلمانية التي لا تأبه بالدين وتوجيهاته الحسنة، فكان الدين يضعفُ شيئاً فشيئاً تحت ظلِّ النظام العلماني والحزبي، وأهله يُبعَدون عن الساحة العلمية والمسؤولية التربوية المؤثرة. كما قلَّ الوقف في معظم المناطق والبلدات الأخرى، وما بقي منه معروفاً هو لشخصيات مسلمة من القرون الماضية القريبة، وقد تكون كتباً موزعة في مساجد ومراكز ومكتبات عامة.
ويحسن بنا بعث هذه الفضيلة الجليلة من جديد، في ظلِّ ما يرتجى من حريات ومناصب لأهل العلم والدين، ليعود للكتاب نفعه المستمر، وللمكتبة نشاطها وثراؤها العلمي، وتكون هناك مكتبة وقف في كل بلد.