خواطر ومذكرات عالم

 

 

السوانح والفوائد التي يقيّدها علماء الإسلام في تصانيفهم مفيدة جدًّا، وفيها زاد للمتعلم والمتفقه؛ ليعرف شؤون الحياة وخفايا العلم، وليطَّلع على سير العلماء وشؤونهم العلمية، واهتماماتهم العلمية، وتقييداتهم الأثيرة، وغرر فوائدهم..

وقد اهتم بهذا أحد شيوخ الإسلام في عصره بدمشق الشام، وهو العلامة جمال الدين القاسمي (ت 1332 هـ)، الذي كان يحمل معه أوراقًا بيضاء، وقلمًا لا يفارقه، فيكتب ما يحضره من تقييدات علمية وخواطر واردة، ويعتبر العلم صيدًا، والكتابة قيدًا له، وأن "إهمال الفوائد خسارة كبرى".

وبما أنه وهب نفسه للعلم، وكان اشتغاله به طوال حياته، فإن خواطره أيضًا جاءت "علمية"، تتعلق بعلمي التفسير والفقه وأصوله خاصة، وهو ما برع فيه، ثم الحديث والعقيدة، وفنون أخرى، كالتاريخ والشعر والعربية، والآداب والأخلاق.

ولهذا سمى خواطره "الواردات والسوانح العلمية"، فإنك لا تجد فيها سوى العلم، والتقييد المفيد، والتعليق المناسب.

وبما أن حياته كانت حافلة بالعلم والتجربة، فقد أردف هذه السوانح بذكريات شخصية أيضًا، وكانت تقييدًا لأمور وأحوال وأخبار شتى، هي في كل حال ذكريات عالم يريد أن يكتب لينفع، لا لشهرة أو متاع.

وعُثر من بين أوراقه على مذكرات تخص خمس سنوات (1321، 1324 - 1327 هـ) "التي حفلت بأحداث وأحوال كان تدوينها مهمًّا في جوانب الإمام أبي الضياء الجمال القاسمي وبيئته العلمية التي عاش في أكنافها، وهو في كل سنة يزداد علمًا وكمالًا وفضلًا، فهو المستمر في التجدد والعطاء" كمال يقول محققه الفاضل.

وقال أيضًا: "فإن في هذه المذكرات صورًا عن أحوال الناس في الأسواق والجوامع والدور والحارات والحمّامات، وغيرها من الأمكنة، كالمتنزهات وعيون الأنهار...".

 كما قال في أدب هذه المذكرات: "من خصائص هذه المذكرات اليومية: التدفق في أحوال اليوم كله، ونقائه المستشف؛ فكأن الناظر فيه لا يتشمَّم غير الزهر المؤنَّق، ولا يتذوق إلا الرحيق المصفَّى".

ووددت لو نقلت نماذج من سوانح المؤلف وذكرياته ليقف القارئ على نفاستها، وجمال نسقها وأدبها، ولكن حالت دون ذلك أشغال ومهمات.

وقد اشتغل بتحقيق الكتابين فضيلة الشيخ المسند محمد بن ناصر العجمي سلَّمه الله، وبقي معه سنوات يحقق وينقح، ويعدِّل ويضيف، حتى اجتمع عمله في مجلدين كبيرين (1360 ص)، مع مقدمات وتحليلات وتوضيحات من صور مخطوطات وأعمال للمؤلف، ليعدَّ كتابًا علميًّا موثَّقًا.

وقد صدر هذا العمل عن دار البشائر الإسلامية ببيروت تحت عنوان "الواردات والسوانح العلمية لعلامة الشام جمال الدين القاسمي، ويليها: من مذكراته اليومية للسنوات 1321، 1324 – 1327 هـ)/  جمع وتحقيق محمد بن ناصر العجمي، 1445 هـ، 2023 م.

وإنه لغنيمة لطالب العلم.

 

(محمد خير رمضان يوسف)