قرأت للأستاذ علي العمير مقالاً طريفًا بعنوان (الإعلان الماكر) في جريدة "عكاظ" العدد (6988) في 20/11/1405هـ تطرَّق فيه إلى الحيلة التي باع بها صاحب دار نشر بأمريكا (17) ألف كتاب في أسبوع واحد، عندما أعلن أن في الكتاب خطأ مطبعيًّا، والذي يكشف هذه الغلطة سيأخذ جائزة قدرها خمسة آلاف دولار.
وبعد تعليقه الساخر على هذا الإعلان - الذي أوافقه عليه - بدأ بالتهجم على جمهور الكرة والفن والتليفزيون والفيديو؛ لأنه ولو أعلنت إحدى دور النشر عن كتاب بهذا الأسلوب في بلدنا، فإنها لن تجد مِن جميع هؤلاء أية أذن مصغية، أو أي قلب واعٍ، بل لن يقرؤوا الإعلان نفسه ..
وتحمس أكثر عندما أعلن هو أيضًا، أنه سيقوم بتوزيع الكتب مجانًا لكل من يطلبها، وأصر على كلمة: (لكل من يطلبها)؛ لأنه على ثقة بأن أحدًا في بلادنا لن يشغلَ نفسه بطلب كتاب ..
وكان إعلانه هذا آخِرَ مقاله!
وفي البداية أذكر أنني على وجل من الرد عليه، فأخشى أن يمطرني بوابل كلماته في مقال آخر، ويهرس كلماتي بحدَّة قلمه، ولكنني أشُدُّ العزم وأتوكل على الله.
فقد لاحظت كثيرًا على قادة الأقلام وهم يتهجمون على شباب اليوم ومثقفيه، وينقدون الواقع المرَّ الذي يعيشون فيه، فلا يعقدون صداقة مع كتاب، ولا زمالة مع القلم، ولا منتدى للعلم، ولا سهرة للثقافة، بل أمرهم موزع بين الكرة والتليفزيون، والسيارة والفيديو .. إلخ.
ويطلبون منهم جميعًا أن يتركوا هذه الأمور، ويُقبلوا على العلم والقراءة والمدارسة، فإن الأمة بحاجة إلى جهود الشباب، قلب الأمة النابض ..، الحضارة والمدنية لا تقومان على أكتاف هزيلة مترنحة، بل هما بحاجة إلى عمل وطول مثابرة .. ولكن أين المجيب، وأين المتأثر بهذه الكلمات؟!
هل يكفي أن يُبرِز أساتذتُنا العلَّةَ ويشخِّصوا المرض، ويحوموا حول السرير الأبيض، أم أننا بحاجة إلى دواء ومعالجة؟
لا شك أنها ظاهرة متفشِّية غير صحية، وشبابنا غدَا تائهًا ضائعًا لا يعرف واجبه، ولا يفكر في مستقبله، بل ينظر إلى الواقع ويقتنع به، ولا يحاول تطويره، إلا ما ندر!
والواجب على العلماء والخبراء أن يعقدوا جلسات كثيرة، ليعطوا حلاًّ لهذه الأزمة الخانقة .. الأمر ليس سهلاً، بل هو بحاجة إلى مدارسة وتخطيط، بحاجة إلى دراسات ميدانية لفئات المجتمع المتعدِّدة.
نريد أن نعرف آراءَ الموظفين والطلاب والفنيين والأطباء والأطفال والنساء وذوي المهن المختلفة .. لماذا لا يقرؤون؟ لماذا لا يقتنون مكتبات في دورهم؟ لماذا لا يحبِّذون لأولادهم حب القراءة وجمع الكتب؟ ما أسباب عكوف الشاب على الفيديو وتعلقهم بالسيارة؟ ما الذي دعاه لهجر الكتاب وعدم تذوُّق كلماته؟ ألأنه خاوٍ من العلم أم أنه لا يجد ما يناسب ذوقه وتخصُّصَه كيف يريد أن يحصل على الكتاب؟ لماذا لا يتردد على المكتبات العامة والخاصة؟ هل إذا أهديته كتابًا سيقرؤه؟ وما نوعه؟ ما الدافع الحقيقي وراء انشغاله بأمور اللهو واللعب؟ هل تمر به لحظات تفكير يريد أن يكون أديبًا أو عالِمًا؟ وكيف؟
إنها أسئلة كثيرة بحاجة إلى تبويب وترتيب، ولو قامت بهذه الدراسة وزارة الإعلام أو وزارة التعليم، أو رئاسة الشباب، أو جمعية الثقافة والفنون لوجدت منه نفعًا حاضرًا، تنطلق من خلالها إلى وضع اليد على مكان الجرح، والتخطيط لأمر مستقبل.
ولا شك أن هناك اقتراحات عديدة لعودة الجمهور إلى العلم والاستفادة منه، كل حسَب تذوقه وتخصصه .. ولكني لا أرى أن الكتاب هو القناة الوحيدة التي من خلالها يمكن جذبُ الشباب للعودة إلى حظيرة البحث والمدارسة والتزود بالعلم .. نَعَم، إن الكتاب له أهله ومحبوه من الباحثين والمثقفين الذين يرون ضرورته، ولكنه غَدَا أداة إعلامية للتعليم والتثقيف، وليس للإعلام والترفيه .. وأنت خبير - عزيزي القارئ - أن الوسيلة الإعلامية تحاول جاهدة أن تؤثر في فكر المتلقِّي عن طريق التشويق والإخراج الناجح، وهو ما لا يكاد يوجد في الكتاب؛ فالكتاب جادٌّ، والجمهورُ غير جادٍّ؛ فأنى الملتقى؟!
علينا أولاً أن نخفف من علاقة الجمهور بوسائل اللهو واللعب، بأن نوجِدَ له البديل المشوِّق المقبول والمفيد.
أما أن نسحب من تحته الفراش الوثير، ونضعه - فجأة - على أرضٍ لم يتعوَّدِ الجلوس عليها، فإنه في نظري ليس مِن الحكمة والخطة السليمة.
البديل في نظري أن تكثف رئاسةُ الشباب والنوادي الأدبيةُ وجمعية الثقافة جهودَها - مع اعترافنا بأنها تبذل جهودًا كبيرة في هذا الصدد - من أجل لفت نظر الشباب إلى ما هو أهمُّ من الكُرَة والفيديو والسيارة، وتركز على ذلك بأفانينَ متعددة ..
ولو أخذت وسائل الإعلام دورها - والصحافة - منها - على وجه الخصوص - في هذا وأحكمَتْ خطتها بقدر ما تعطي الأهمية على صفحاتها كل يوم للرياضة، لاختلف الوضعُ، ولتغيَّرت الحال.
ولو أُعطِيَت الأهمية للمبدعين في الأدب، وأصناف العلوم، وعُقِدت معهم اللقاءات، وأخذت لقطات من الصور لمكتباتهم، وبيِّن مدى تعلُّقهم بالكلمة - وبخاصة الشباب منهم - أكثر من الرياضين والفنانين، لكان الوضعُ غيرَ ما هو الآن!
ولو تبرَّعت الجرائد في صفحات إعلاناتها للدعاية ككتاب هام للشباب، وقمين بأن يقرأ، مع إعلانات السيارات والعطور والأحذية، لاستقام الحال أكثر من السابق.
ولو كان هناك اتفاق بين الإعلاميين بأن يسألوا أثناء إجراء أي لقاء عن الكتاب المحبَّب إلى المسؤول - بخط عريض في ذلك - لترسَّخ في الأذهان قيمة الكتاب وأهميته.
ومنذ مدة ليست بالقصيرة وأنا أفكر في حلٍّ للشباب، من منظور عام لأزمتِه الثقافية، وكيفية تحوله إلى المنبع الأصلي للثقافة - وهو الكتاب - وأخذت في ذهني بأن يبقى الشباب مرتبطًا بما هو مرتبط به الآن، فما الحل؟
إنها خطة على المدى البعيد إذًا، وأرى أثناءها أن تحول فكرة كل كتاب مهم إلى حوار وسيناريو، تؤدى من خلال عروض مسرحية، أو مسلسلات تليفزيونية، بإخراج مشوق ومؤثر، تتبيَّن فيها الحياةُ الاجتماعية أو الفكرية لفئات المجتمع المختلفة.
وهذا إنما هو اقتراح وجزء من الإصلاح، وليس كله، وهل المهم قراءة الكتاب بذاته أم إيصال فكرته إلى الجمهور؟ والباب مفتوح للحوار والمناقشة!
(نشر في جريدة "عكاظ" بجدة ع 6999 (1/12/1405هـ))