حول كتاب "حكم وآداب"

نشرَت جريدة "الشرق الأوسط" في عددها: 7570 بتاريخ 9/ 5/ 1420 تعليقًا للمُحقِّق الناقد جليل العطية يلومني فيها أو يَنقدني كيف نشرت كتاب "حكم وآداب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه" قبل البحث عن مؤلفه، وأنه كان يجب علي أن أكون "أصبر من الأرض" فأبحث وأبحث وأبحث حتى أعرف مؤلفه.

هذا هو كل محتوى تعليقه، ولكنه ليس هو مضمون مقدمته، فإن بينهما بونًا شاسعًا ولكل منهما حديث.

1 - أما المضمون فكان أول ما انتهيت منه أن طويت الجريدة لأبقى في شأني وأتابع ما أنا بصدده؛ فقد وقفت على الكتاب الأصل "غرر الحكم ودرر الكلم"؛ للآمدي، وعرفت أن كتاب "حكم وآداب" قطعة منه، وكان هذا منذ مدة طويلة، وصحَّحت ما يلزم فيه وأعددت مقدمة للطبعة الثانية منه، أنوِّه بها للقارئ، وأُعلمه بذلك، ثم بدا لي ألا أعيد طبعه، فإن الكتاب الأصل موجود، ولم تعد هناك حاجة لـ "قطعة" منه، ولم أر حاجةً للتنويه بذلك في جرائد أو مجلات، إلا إذا دعا الأمر في خصوصية معينة، مثل هذه.

2 - أما بشأن عتب المؤلف وكيف نشرتُه ولم أصبر أكثر، فأقول بأنني بحثت وبحثت وصبرت وصبرت، وعذري أن الكتاب لم يكن متوفرًا، لا في المكتبات العامة التي أتردد عليها، ولا في كبريات المكتبات التجارية في البلد الذي أقيم فيه، ثم إن السفارة الإيرانية أهدت مجموعة من مراجع كتب الشيعة إلى مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض، فوقفت على الكتاب هناك، ولعله كان من تلك الدفعة، ويبدو أن المؤلف من الشيعة، فعرفت أنه هو.

وقد ذكرت في مقدمة الكتاب أن هذه القطعة من المخطوطة لم يعرفها حتى مالكها، وهو الأديب المطلع المرحوم عبدالعزيز الرفاعي، وهو الحريص على اقتناء أندر الكتب وأمهات المراجع، وكتب في مجلة "الفيصل" سلسلة طويلة من زاوية "وللحديث شجون"، في أصعب ما يتعرض له من تحقيقات تراثية، وصدرت في "كناشة الرفاعي"، بعد وفاته - رحمه الله - فلماذا لم يعرفها هو أيضًا؟ إن عذره هو عذري، وعذري عذره؛ فإن كتب الشيعة لا يمكن الحصول عليها بسهولة، وإذا لم يكن هذا الكتاب متوفرًا فكيف السبيل إلى معرفة تلك القطعة من المخطوطة؟

وعجبي مما قاله المحقِّق الفاضل من أنني لم أُتعِب نفسي بالبحث عن المؤلف، واحتجَّ بهذا أنني وقفت على المرجع الفلاني فلماذا لم أقف على المرجع الآخر؟! فهل يمكن للمرء الوقوف على ما يشاء من مراجع؟ أوَلا توجد معوقات تخطر على بال كل قارئ، منها ما ذكرت؟

3 - ولعله من المناسب هنا أن أطرح موضوع "المخطوطات التي لا يُعرَف مؤلِّفوها"، فهل الأفضل أن يبقى النافع منها حبيس الخزائن لا يُنشَر أم الأفضل نشره لتعم فائدته، ثم يأتي التوجيه والنقد والتحقيق من النقاد والأفاضل، ليُعرَف المؤلف، ومن ثم يصحح ما يلزم ويوجه التوجيه الصحيح في الطبعة الثانية من الكتاب؟

إنني مع الرأي الثاني؛ أي: نشر المخطوط النافع الذي لا يُعرَف مؤلفه بعد البحث والعرض على علماء التراث، بل أنصح كل مَن لديه مخطوطة ثمينة نافعة أن يفعل ذلك، وإذا لم يجرؤ عليه فليُرسلها إليَّ لنشرها، لتعم فائدتها، وليقل النقاد فيَّ ما يقولون.

وإنني هنا أركز على الفائدة العملية وليس الجدل النظري، أركز على ما ينتفع منه الباحث في بحوثه ودراساته العليا وتحقيقاته العديدة، ونصوص لا يكاد يصل إليها إلا بعد تعب مضنٍ.

4 - وسأذكِّر بكتب تراثية عديدة منشورة ما زالت ناقصة الأجزاء وناقصة الصفحات، فلعلها إن نُشرت تكون مكمِّلة لها، وأنى لمحققي تلك الأصول أن يعرفوا الأجزاء الناقصة وهي قابعة في خزائن مخطوطات لا يُعرَف مؤلفوها؟ أليس الأفضل بعثها من رقادها بطبعها ونشرِها ليقف عليها مَن يُريد ذلك، فيرى فيها ما يرى؟ وأية خسارة في ذلك؟ بل الفائدة محقَّقة إن شاء الله.

5 - وأذكِّر هنا بكتاب "درة التنزيل وغرة التأويل" في الآيات القرآنية المتشابهة، الذي طبع منذ أمد طويل منسوبًا إلى الخطيب الإسكافي، ثم تنبه الأستاذ عمر الساريسي إلى خطأ نسبته إليه فأوقف القراء على أنه للراغب الأصفهاني وليس للخطيب الإسكافي، واضطرب ميزان نقدِه عندما تدخل الأستاذ أحمد فرحات - جامعة الكويت - ليعضد رأيه بشواهد من أن مؤلفه الحقيقي هو قوام السنَّة، وليس الراغب ولا الإسكافي!

والكتاب ذو فائدة كبيرة للقراء والباحثين، لكن مؤلفه الصحيح لا يُعرَف حتى الآن... فلا بأس من طبع الكتاب مهملاً من ذكر مؤلفه، أو ذِكره كما أورده النساخ، ثم يأتي النقد والتحقيق.

وأيهما أخطر: نسبة الكتاب إلى غير مؤلفه أم طبعُه بدون ذكر المؤلف؟ ثم: ألم تتحقَّق الفائدة بطبع كتاب "درة التنزيل"؟.

ومثل هذا قليل - عزيزي القارئ - والهدف إبراز المكنون وتجليته أمام عيون الرقباء ومختبرات علماء التراث، ليعرفوا ويسدِّدوا، مع تحقُّق الفائدة مسبقًا، وأرجو ألا يحمل كلامي هذا محملاً لا يطيقه.

6 - أما صلة ما قلته بما نحن بصدده فهو: أنني وقفت على صورة مخطوط جميل، فيه حكم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذي جلب فيه نظري هو "ترتيبها الهجائي"؛ حيث تمر بالباحث أقوال وحكم لعلي رضي الله عنه فيجد صعوبة في الوصول إليها؛ نظرًا لعدم ترتيبها، وعندما وقفتُ على هذه القطعة الأثرية والحِكَم فيها مرتبة، أعجبني هذا العمل، وعزمت على نشره ولو لم أعرف مؤلفه، فلعله يُعرَف بعد نَشرِه، وقلت في مقدمة الكتاب: "ولا شك أن مُحاوَلةَ جمع حِكَم الإمام علي رضي الله عنه عمل جدير بالتقدير، وترتيب هذه الحكم بأسلوب مُحكَم يستحق الإعجاب والتكريم، وتوثيقها مطلوب في أية حال، ولو عثر على نسخة أخرى صحيحة كاملة من هذا المخطوط وعُرف جامعه، لكان هو الآخر عملاً مجيدًا".

وقد بحثتُ في الكتب والمراجع لأقف على ما يدلُّنِي على أن هناك كتابًا فيه حكم عليٍّ مرتبة فلم أقف، فأيهما كان أفضل: أن أبقي الكتاب هكذا مخزونًا نائمًا، أم أحقِّقه وأطبعه ليقف عليه القراء والباحثون ويعلموا أن هناك من جمع حكم عليٍّ ورتَّبَها، ولكن يلزم معرفة الكتاب كاملاً والبحث عن مؤلفه، ولينتج عن ذلك بحث ونقد وتوجيه؟ وأي خطر ينتج عن نشره كما هو؟

7 - ماذا لو نشرت هذا المخطوط كما هو، ولم أزد فيه ولم أنقص، ورأيته مجهول المؤلف فقلت على غلافه "لمؤلف مجهول"؟ هل مِن شائبة تَحوم حول عملي هذا؟ هل قمت بـ "تزوير" في الحِكَم، أم زوَّرت اسم المؤلف؟ هل "لفَّقت" بين شيء من هذه الحِكَم وضربتُ بعضها ببعض، أو وضَح فيه اسم مؤلف فلويت عنق أحرفه وكتبت بدلاً منه اسم شخص آخر لغرض في نفسي؟ هل "شوهت" المخطوطة بذلك بعدم تحقيقها جيدًا أو نشرت قطعة منها دون قطعة أو شوَّهت اسم مؤلف كان عليها؟ هل "ولَّدتُ" حِكَمًا جديدة من عندي وأدخلتها بين هذه الحكم أو اقترحت وولدت اسم مؤلف بعيد؟!

إذًا اقرأ ما قاله الأستاذ الفاضل جليل العطية في أول كلام قاله في التعليق المذكور: "المتتبِّع لنشر التراث العربي - الإسلامي يُفجع بسبب كثرة التشويه والتلفيق والتوليد والتزوير الذي لحق النصوص والآثار المنشورة خلال العشرين سنة الماضية، ولو فكر بعضهم في إعداد موسوعة بأسماء المزورين المنتشرين في بيروت وطرابلس والقاهرة وتونس وغيرها من حواضر الوطن العربي، لقدم لنا قائمة سوداء نافعة".

قد بدا لك - عزيزي القارئ - ما وضحته، ثم قرأت كلام الأستاذ جليل وتلميحه إلى التشويه والتلفيق والتوليد والتزوير، لكنه لم يصرِّح بذلك في محتوى التعليق، فما معنى إيراده هذا الكلام في المقدمة، وما صلته بالموضوع الذي هو بصدده؟ أيُّ تشويه وأي تلفيق وأي توليد وأي تزوير في قطعة من مخطوطة لم أرَ عليها اسم مؤلفها فنشرتُها كما هي؟!

هل أعتبر بذلك "مُزوِّرًا"؟ إن الأستاذ جليل نفسه سيقول لا، كما هو جواب أي قارئ أيضًا. إذًا فما مجال ذكر هذه المقدمة وما صلتها بموضوع التعليق؟

9 - لقد مضى ما يقرب من شهر على مقاله هذا ولم أردَّ عليه، وما رأيت حاجة إلى ذلك، فإني عرفت مؤلف الكتاب، بعد أن وقفتُ على الكتاب الأصل، وصرفت النظر عن إعادة طبعه بعد أن وجد الأصل، ولكن الأمر المُحزن هو خشيتي من أن يقرأ القارئ الكلمات الأولى من التعليق فقط فيُسيء بي الظن!

هاتفَني جاري، وأرسل إليَّ أخ لي شقيق قصاصة من الجريدة من بلد أوروبي يُقيم فيه، وكلمني في ذلك زملاء في العمل وآخرون من زملاء البحث، ثم صورة مِن القصاصة وصلتني من الناشر مدير دار ابن حزم.

ومع كل هذا لم أرَ ما يوجب الرد، ثم أردت أن أقف على مواقف بعضهم بعد قراءة المقال، فكان أن صدق ظني من إساءة الظن بي بما لم يتوقعه مني! فتعجَّبتُ والله! وعندما بيَّنتُ له الأمر باقتضاب اقتنع، لكنه رأى مِن الأفضل الرد، حتى يندفع اللبس، واللبس يأتي من عدم قراءة نص التعليق كله، والاكتفاء بالأسطر الأولى منه، فإن الأستاذ جليل قال في المقدمة كلامًا لا علاقة له بالمضمون الذي كتبه!

وأعجب من هذا لو اكتفى القارئ بقراءة قول الكاتب: "ولو فكر بعضهم في إعداد موسوعة بأسماء المزورين المنتشرين في بيروت و..." فإنه سيَضرب كفًّا بكف حسرة وندامة على ما لم يتوقعه منِّي!

ولعل جليل العطية يرد ويقول: وما علاقتي بهؤلاء الذين لا يقرؤون، وإذا قرؤوا اكتفوا بالأسطر الأولى منه، أو ما كُتب منه بالحرف الأسود؟

أقول: إذًا ما علاقة مقدمتك بمضمون ما كتبت؟ ومَن المتسبِّب في فهم النقد خطأ؟

10 - بقي أن أشير إلى نقد آخر ذكره الكاتب بقوله: "إن المخطوط الذي نشره الأستاذ يوسف مضطرب، بل هو أوراق مُبعثَرة مِن غُرَر الحِكَم".

وقد شرحت في مقدمة الكتاب ما فيه الكفاية حول هذا الأمر، ولو كان ما أكتب فيه مجلة متخصصة لذكرتُ الرد المناسب والمفصل، وقد يَطلُب مني الناس إعادة طبع الكتاب فأستجيب له للضرورة، ليرى الأستاذ جليل الفارق القليل جدًّا مما سماه "اضطرابًا" لكنه قد لا يدرك أن هذا الاضطراب حصل في كتاب "غرر الحكم" بيد محقِّقه؛ حيث ذكر هو في مقدمة تحقيق الكتاب أن الحكم الواردة لم تكن مرتبة هجائيًا بشكل سليم، فغير هيئة الكتاب، وقام بتبديل مواقع الحكم لترتيبها بشكل جيد، ولم يوفق تمامًا في هذا العمل، وبذلك لم أتمكَّن من معرفة ترتيب الحِكَم التي في القطعة - مما شككت في ترتيبها - بالشكل الذي أراده المؤلف، بعد أن غيّر المحقق ترتيبها كلها تقريبًا ونقض أو غيَّر أسلوب المؤلف فيها.

فالاضطراب الذي رآه الناقد في كتابي ليس صحيحًا، وإنما حصل هذا الاضطراب في الكتاب الأصل بيد المحقق "عبدالحسن دهيني" الذي اعتمد على ثلاث نسخ مخطوطة ليس من بينها مخطوطة الهند هذه، وقد رأيت اختلاف كلمات بينها وبين الكتاب الأصل، فلعلَّ المحقق دهيني يستدرك ذلك ويستفيد.

وألخِّص مقالي كما لخص الأستاذ عطية مقاله فأقول: إن الكتاب الذي نشرته "حكم وآداب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه" ولم أَعرِف مؤلفه، وقفت على الكتاب الأصل "غرر الحكم ودرر الكلم"، وتبيَّن لي أن الأول قطعة من وسطه، وجامعها الحقيقي هو "عبدالواحد الآمدي".

وقد وقف الأستاذ جليل العطية على كتابي فعرف مؤلفه أيضًا وكتابه الأصل، فعرف القارئ بذلك، ولكنه كتب مقدمة غير مناسبة ولا علاقة لها بمضمون النقد، ولولا تلك المقدمة الفظيعة لما كتبتُ هذا الرد أصلاً.

(نشر في جريدة "الشرق الأوسط" ع 7607 (16/6/1420 هـ))