هذا السؤال بحاجة إلى جواب!
لماذا كان أسلافنا من المفسِّرين والمحدِّثين والأدباء يَختصرون ولا يُكرِّرون؟
ويذكرون الكلام الذي لا بد منه لفهمِه، ويدَعون الحواشي والزيادات، حتى صارت شروحٌ، وشروحٌ على شروح؟!
ويندر أن تجد مختصرًا لكتاب، فإن وجدته كان لسببٍ ما، على غير القاعدة السابقة!
أما كتَّاب هذا العصر - على العموم - فلا تكاد تفتح لهم كتابًا حتى تملَّ من مقدمته، فإن أردتَ أن تُبحر إلى مادته، لزمَكَ عشرات الصفحات لتصلَ إلى ما يريد أن يقوله لك!
فهو لا يريد أن يُطعِمَك عنبًا، حتى يفقأ في فمك الحصرم!
ولا يريد أن يُذِيقك عسلاً، حتى "يُدغدغ" جوانبك "الفكرية" بأشواك موجعة!
فما السبب في هذا؟!
هل كان أسلافنا يملكون قدرةً عقلية واعية للتعلُّم والتعليم أكثر منا؛ ولذلك كانوا يوجِزون ويَختصرون ولا يكرِّرون، أما نحن، فلا نَملك تلك المقدرة، ولا نفهم إلا بعد إيضاح وتوضيح، وزيادة وتكرير؟!
والحديث ذو شجون.
والكتابات المتنوعة التي يقدِّمها كُتَّابنا - في نظري - يكفي منها قليل الكلام، ليعطي مادته، ويوصل فكرته.
وهذا بحاجة إلى نقد ودراسة علمية وافية، وتوجيهات أدبية، بل وجوائز تشجيعيَّة، وفيها اقتصاد للأيدي العاملة، وتوفير لمُنتجات صناعية في هذا المجال.
وعلى كل حالٍ، فقد كان هذا مدخلاً مناسبًا لأقول:
إن الكتاب الذي أنا بصدده من ذلك النوع القديم، الذي أوجز فيه الكاتب الكلام، ليدلَّ على إعجاز الكلام في أحاديث جامعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يُعيد ولا يُكرِّر، بل يعطي المعنى والمدلول بقدرة فائقة على الكتابة والبيان.
الكتاب هو "جامع العلوم والحكم، في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم"؛ لزين الدين أبي الفرج عبدالرحمن بن شهاب الدين بن رجب الحنبلي البغدادي، من علماء القرن الثامن الهجري (ت: 795هـ)، طبعة دار المعرفة ببيروت، وجاء في 431 صفحة، وكان اعتمادنا على هذه النسخة.
وقد صدر الكتاب محقَّقًا عن مؤسسة الأهرام بالقاهرة عام 1389هـ، في جزأين، قام بتحقيقه محمد الأحمدي أبو النور.
ولكن من المؤسِف ألا تجد رواجًا لهذا الكتاب المحقَّق؛ بحيث لا تكاد تجده في المكتبات، بينما الطبعات التجارية، والمصوَّرة من الطبعة الأولى، لا تخلو منها مكتبة عامة، رغم أنها طبعة رديئة، وفيها أخطاء كثيرة، وبعض كلماتها كُتبت مثلما هو مكتوب في المخطوطة.
ومن المؤسف حقًّا أن يكون هذا الكتاب الذي أخذ شهرةً كبيرة بين العلماء وعامة المسلمين، لم يأخُذْ تلك العناية من دُور النشر، ولا من الجامعات والمراكز الثقافية الإسلامية لتحقيقه وإخراجه بشكل جيد مناسب يليق بالكتاب وبالمؤلف!
وتبيَّن لي أن الكتاب قد طبع لأول مرة منذ ما يقرب من قرن من الزمان؛ فقد ورد في هامش (ص: 247) ما يفيد ذلك: عام 1314هـ، عندما قال المعلِّق إنه ظهر في ذلك الزمان رجل يقال له: المرزا غلام أحمد الكادياني [القادياني] الذي ادَّعى النبوة!
والطباعة رديئة، وبعض الكلمات كُتِبت مثلما هو مكتوب بالمخطوطة، مثل (مسئلة) بدل (مسألة)، وغير ذلك، ولم أعرف سبب عدم تحقيقه حتى الآن، فهل هو خوف الباحث من الإقدام عليه؛ لكثرة ما فيه من روايات ومأثورات وأعلام، أم أن السبب يكون من الأساتذة في الجامعة عندما يريدون أن يكون المطلوب (مخطوطًا) وليس (مطبوعًا)؟ وإلا فلا معنى لأن يَبقى كتاب مشهور - مثل هذا - بدون تحقيق حتى الآن.
وهدفي من هذه الدراسة أن أُنبِّه إلى قيمة الكتاب العلمية، وروعة الكتاب المنهجيَّة التي اتَّصف بها الكاتب حين جمعه لموادِّ الكتاب.
والكتاب شرح لاثنين وأربعين حديثًا من جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جمَعها الإمام النووي، وزاد عليها ابن رجب ثمانية أحاديث أخرى؛ ليَتم بذلك الخمسون حديثًا.
ويبدو أن ابن رجب أقدم على هذا العمل تحت إلحاح جماعة من طلاب العِلم، لِما رأَوا فيه من كفاءة للإقدام على هذا العمل.
يقول في مقدمته (ص: 3): "وقد تكرَّر سؤال جماعة من طلبة العلم والدين لتعليق شرح لهذه الأحاديث المشار إليها، فاستخرتُ الله تعالى".
وفي أسطر قليلة موجزة يُبيِّن منهجه العام في شرح هذه الأحاديث بقوله (ص: 4): "ليس غرضي إلا شرح الألفاظ النبوية، التي تضمَّنتها هذه الأحاديث الكُلية...، وما تضمَّنته من الآداب والحِكَم والمعارف والأحكام والشرائع، وأشير إشارةً لطيفةً قبل الكلام في شرح الحديث إلى إسناده؛ ليعلم بذلك صحته وقوته وضعفه، وأذكر بعض ما رُوي في معناه من الأحاديث، إن كان في ذلك الباب شيء غير الحديث الذي ذكره الشيخ (يَقصد النووي)، وإن لم يكن في الباب غيره، أو لم يكن يصح فيه غيره، نبَّهت على ذلك كله".
وقبل الخوض في التعريف بمواد الكتاب، أودُّ أن أشير بإيجاز إلى بيان قدرة المؤلف على نقد الحديث سندًا ومتنًا، وإذا كنا نعلم أن ابن رجب متضلِّع في علم الحديث، فإنه لا يتردَّد عندما يُناقِش موضوعات تخصُّ سند الحديث أو متنه.
ففي (ص: 81) يقول: إن النسائي خرَّج قصة تناظُر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بزيادة، وهي أن أبا بكر قال لعمر: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة"، وخرَّجه ابن خزيمة في صحيحه.
قال ابن رجب: "ولكن هذه الرواية خطأ، أخطأ فيها عمران القطان إسنادًا ومتنًا، قاله أئمة الحفاظ، منهم: علي بن المديني، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والترمذي، والنسائي، ولم يكن هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ عند أبي بكر ولا عمر، وإنما قال أبو بكر: "والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال... إلخ".
واستدل ابن رجب بهذا الحديث على أنه إشارة إلى أن قتال تارك الصلاة أمر مجمع عليه؛ لأنه جعله أصلاً مقيسًا عليه، وقال: "ويُستدلُّ أيضًا على القتال على ترك الصلاة بما في صحيح مسلم: "يُستعمَل عليكم أمراء فتعرفون وتُنكِرون، فمن أنكر فقد برئ، ومَن كَرِهَ فقد سَلم، ولكن من رضي وتابع"، فقالوا: يا رسول الله، ألا نقاتلهم؟ قال: "لا، ما صلَّوا"، ثم قال ابن رجب: "وحكم مَن ترك سائر أركان الإسلام أن يُقاتَلوا عليها كما يقاتَلون على ترك الصلاة والزكاة".
وانظر ما قاله في الحديث الثاني عشر: "مِن حسن إسلام المرء تَركه ما لا يعنيه" (ص: 105)؛ ليبدو لك جليًّا مدى علمه بالحديث، وكذلك في (ص: 120).
وفي رواية لحديث آخر (ص: 211) يقول: "وفي هذا الحديث نظر، ووهب بن خالد ليس بذاك المشهور بالعلم".
وعندما يستدلُّ أحدهم بحديث: "إن المؤمن ليؤجر في كل شيء، حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه" (ص: 224) يقول: وهذا اللفظ الذي استدلَّ به غير معروف، إنما المعروف قول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: "إنك لن تُنفِق نفقةً تَبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى فِي امرأتك"، وهو مقيَّد بإخلاص النية لله، فتحمل الأحاديث المطلقة عليه، والله أعلم.
ويتحدث عن رواية أخرى لحديث في (ص: 236) فيُضعِّف سنده لأمرَين، وفي الصفحة التالية يُعرِّف براوٍ ردًّا على غيره، وأنه تابعي مشهور.
وفي (ص: 241) يقول عن حديث: إنه معلول، رغم أنه قد قيل: إن إسناده على شرط مسلم، وفي رده على الحاكم (ص: 244) يقول عن حديث: ليس الأمر كما ظن الحاكم، وليس الحديث على شرطهما (أي: البخاري ومسلم)... إلخ.
وعندما يقول الإمام الترمذي عن حديث: إنه حسن صحيح، يقول ابن رجب (ص: 255): وفيما قاله - رحمه الله - نظر من وجهين.
وأحيانًا يجزم برأيه كما قال في (ص: 255) عن إحدى الروايات:
قلت: رواية شهر عن معاذ مرسَلة يَقينًا.
وانظر آراءه أيضًا في (ص: 272، 351، 365، 368).
وعندما يقول عن حديث: إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات، مخرَّج لهم في الصحيحين (ص: 338)، يقول بعده مباشرة: سوى شيخ الطبراني (ربما يقصد هارون بن كامل)، فإنه لا يحضرني الآن معرفة حاله.
ولو عاد - رحمه الله - لِما كتب، لوصل إلى معرفته بالرجوع إلى المصدر.
وعندما يُصحِّح بعضهم حديثًا يقول: تصحيح هذا الحديث بعيد جدًّا من وجوه؛ انظر: (ص: 364).
ودعنا نُبحِر الآن مع الكاتب في ثنايا الكتاب!
إنك تراه في كل حديثٍ من هذه الأحاديث الخمسين، يعطيه حقه من التوضيح والبيان، يطمئنك على سند الحديث أولاً، وقد يُعطي مقدمة عامة، أو توطئة لموضوع الحديث، وسبب وروده، ثم يقسمه إلى أقسام، وهنا يزيد من عنايته في بيان كل ما يتعلق به؛ من مفردات، وتوضيحات، وروايات، وخلافات، ونصوص مُوافقة، وأخرى مقوِّية، ثم يَستنتج ويُبدِي رأيه ويَختمه لك، وأنت تَشعر بأنه لم يترك شيئًا في هذا المجال إلا وتطرَّق إليه.
وقد يَختلف أسلوبه من موضوع إلى موضوع، من حيث الإيجاز أو الإطناب، حسب أهميته وحاجته إلى هذا الأسلوب أو ذاك، ويُنبِّه إلى لطائف نادرة؛ حتى لا يفوت المرء إدراكه.
في شرحه للحديث الرابع: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه... إلخ"، وعندما يصل إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار..." إلخ، يُورِد أيضًا رواية البخاري: "إنما الأعمال بالخواتيم".
يقول (ص: 54): "وفي الجملة: الخواتيم ميراث السوابق، فكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم مَن كان يقلق من ذكر السوابق، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقرَّبين معلقة بالسوابق يقولون: ماذا سبق لنا؟
وقوله: "فيما يبدو للناس": إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطَّلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت".
ثم يقول: "وفي الجملة، فالخواتيم ميراث السوابق".
ويزيد ذلك شرحًا فيما بعد، وسبب اهتمامه بهذا هو هذه اللحظة الرهيبة التي يعيشها المرء عند فقدِه لروحه التي بين جنبَيْه، والثواني الأخيرة لصلته بعالم الدنيا، وعالم المادة، والأولاد والأهل، وانتقاله إلى عالَم آخر تتحرَّك فيه الأرواح دون الأجساد البالية، إنها حقًّا لحظات لا تتكرَّر، ومواقف لا يستطيع أن يعبِّر عنها القلم، وقد عقد ابن القيم فصلاً عن هذا في كتابه القيم "الروح".
وأثناء شرح ابن رجب الحديث السابع: "الدين النصيحة" ينقلنا إلى عالم المسؤولية التي كلف بها المسلم، وهو عالم ينوء بحمله الجبال، ولا يكاد يخطر على بال المسلم اليوم بعض ما يذكره المؤلف في هذا الحديث، ومن جليل ما قاله (ص: 75): "وقد تُرفَع الأعمال كلُّها عن العبد في بعض الحالات ولا يرفع عنه النصحُ لله، فلو كان مَن مرِض بحالٍ لا يمكنه عملُ شيء من جوارحه بلسان ولا غيره، غير أن عقله ثابت، لم يَسقُط عنه النصح لله بقلبه، وهو أن يندم على ذنوبه، وينوي إن صحَّ أن يقوم بما افترض الله عليه، ويَجتنب ما نهاه عنه، وإلا كان غير ناصح لله بقلبه... إلخ".
ومما قد يغيب عن الذهن أن المرء يُثاب بحسناته في الكفر إذا أسلم، وتُمحى عنه سيئاته إذا أسلم، لكن بشرط أن يحسن إسلامه، ويتقي تلك السيئات في حال إسلامه، وأورد في ذلك أحاديث؛ انظر: (ص: 108 - ص109).
ويغيب أيضًا عن ذاكرتنا معاملة العاصين، فكيف يجب أن تكون؟
إن سلوك بعض الدعاة معهم يُؤدِّي إلى نفورهم من الدين بدل عودتهم إليه بالحسنى، وقد ذكرني بهذا ما أخرجه البخاري؛ أن رجلاً كان يُؤتَى به النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر، فلعَنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعَنْه؛ فإنه يحب الله ورسوله".
ولنا بعد هذا أن نحاسب أنفسنا، ما إذا كان موقفنا وتعاملنا مع العصاة تبعًا لما جاء به الدين، أم تبعًا لهوانا؟!
وقِسْ على شارب الخمر غيرَه من العصاة، وهم ممن يُحبون الله ورسوله، ولكننا لا نقترب منهم، ونكرههم، ونعدُّهم من أدنى الناس مروءةً وخُلقًا!
أليس هذا التعامل بحاجة إلى نظر، وخاصة بين الدعاة المسلمين، والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم أولى وأهدى؟
وعن موضوع آخر (ص: 125) - وهو الكلام والصمت - يُريد أن يصل بنا المؤلف إلى حلٍّ بعد إيراد أدلة الطرفين، فيقول:
فمن هنا يُعلَم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لا بدَّ منه.
وأورد عن سليمان بن عبدالملك قولَه (ص: 127): الصمت منام العقل، والنطق يقظته، ولا يتم حال إلا بحال؛ يعني: لا بد من الصمت والكلام.
ويقول ابن رجب (ص: 127): وبكل حال، فالتزام الصمت مُطلقًا واعتقاده قربة، إما مطلقًا أو في بعض العبادات؛ كالحج والاعتكاف والصيام: منهيٌّ عنه.
وقال ابن يزيد - أو ابن بريدة كما في الهامش (ص: 260) -: رأيت ابن عباس رضي الله عنهما أخذ بلسانه، وهو يقول: ويحك، قل خيرًا تغنَمْ، أو اسكُتْ عن سوء تسلَمْ، وإلا فاعلم أنك ستندم، قال: فقيل له: يا بن عباس، لمَ تقول هذا؟ قال: إنه بلغني أن الإنسان - أراه قال - ليس على شيء من جسده أشد حنقًا أو غيظًا يوم القيامة منه على لسانه، إلا مَن قال به خيرًا أو أملى به خيرًا.
* وقد رأينا قبل مدة كيف أن المطابخ اليابانية طلعت على المشاهدين بأسلوب جديد في طهي السمك أو قلْيِه، وهو أن يوضع السمك - وهو حي - في الزيت المغلي، ومن ثم يخرج ويوضع أمام (الزبون) وهو ما يزال يتحرَّك.
فليس من شأن المسلم أن يكون قاسي القلب مثل هؤلاء الذين لا يلتزمون بعقائد وآداب صحيحة، وقد أُمِر المسلم أن يرفق بالحيوان.
ويقول الإمام أحمد: لا يُشوى السمك في النار وهو حي!
بل إن أكثر العلماء على كراهة التحريق بالنار حتى للهوامِّ؛ انظر بالتفصيل (ص: 145) فما بعد.
* ولا أكون مغاليًا إذا قلت: إن ابن رجب عالِم نَفْسٍ كبير؛ فهو كثيرًا ما يغور في أعماق النفس البشرية فيُخرِج عيوبها، ويدلُّ على محاسنها.
أقول هذا، وأذكر أن له كتيبا نفيسًا في هذا المجال، وهو بعنوان: "الفرق بين النصيحة والتعيير".
ونبَّه في الكتاب الذي نحن بصدده (ص: 232) إلى أمر ربما لا يَخطر على بال كثير من المسلمين؛ يقول - رحمه الله -:
ومن فضله سبحانه أنه نسب الحمد والشكر إليهم، وإن كان من أعظم نعمه عليهم، وهذا كما أعطاهم ما أعطاهم من الأموال واستقرض منهم بعضه، ومدحهم بإعطائه، والكل ملكُه، ومن فضله، ولكن كرمه اقتضى ذلك، ومن هنا يُعلَم معنى الأثر الذي جاء مرفوعًا وموقوفًا: "الحمد لله حمدًا يوافي نعمه، ويُكافئ مزيده".
لقد قرأت هذا وأنا أتعجب!
فإن الإنسان كثيرًا ما يفوته أن يحمد الله ويشكره على ما أنعم عليه من علم أو مال أو سلطان، وقد تمرُّ الساعات والأيام، بل والسنوات، وهو غارق في عمله ومهنته، ولا يتذكَّر أن هذا من نعمة الله عليه!
فإن هداه الله وتفضَّل عليه، ذكره وألهمه بأن يَحمد الله ويَشكُره، وإن لم يشأ بقي المرء في نسيانه، فلا يَحمد ولا يَشكُر!
أليس الحمد والشكر أيضًا من نعم الله على عباده، يُذكِّر مَن يشاء ويُنسِي مَن يشاء؟
وذكَّرني ما ورَد في (ص: 244) بأمرٍ تسير عليه بعض المساجد، أو كثير منها، وهو الوعظ اليومي، بل يرد أن يكون هناك درس بعد العصر وآخر قبل العشاء، وذلك بالقراءة من كتاب طوال السنة، كما رأيته بنفسي في المملكة، وقد ورد في الصحيحين عن أبي وائل قال: كان عبدالله بن مسعود يُذكِّرنا كل يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، إنا نحب حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنك تحدثنا كل يوم، فقال: ما يمنعني أن أحدثكم كل يوم إلا كراهة أن أملَّكم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوَّلنا بالموعظة؛ كراهة السآمة علينا.
وللمرء بعد ذلك أن يوازن بين الواقع وبين ما هو مطلوب.
وفي موقف طريف تعرَّض له الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في (ص: 256) من الكتاب، أنه قال لرجل - ويبدو أنه أعرابي -: "كيف تقول إذا صليتَ؟"، قال: أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، ولا أُحسِن دَنْدَنَتك ولا دَنْدَنة معاذ - يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في المسألة - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "حولها نُدَنْدِن"، وفي رواية: "هل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار".
وفي قضية طريفة مع شُريح القاضي، ورد أنه قضى في أولاد هرَّة تداعاها امرأتان، كل منهما تقول: هي ولد هرتي، قال شريح: ألقها مع هذه، فإن هي قرَّت ودرَّت واستبطرت، فهي لها، وإن فرَّت وهربت وبارت، فليس لها، قال ابن قتيبة: قوله استبطرت يريد امتدَّت للإرضاع، وإن بارت: اقشعرت وتنفشت (ص: 298).
ويحاول ابن رجب في (ص: 270) أن يصل إلى قاعدة أصولية لما لم يَرِد فيه نصٌّ، فيقول: والتحقيق في هذا المقام - والله أعلم - أن البحث عما لم يوجد فيه نصٌّ خاصٌّ أو عامٌّ على قسمين:
أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالات النصوص الصحيحة من الفتوى والمفهوم والقياس الظاهر الصحيح، فهذا حق، وهو مما يتعيَّن فعلُه على المُجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية.
والثاني: أن يُدقِّق الناظر نظرَه وفكره في وجوه الفروق المستبعَدة، فيُفرِّق بين متماثلين بمجرَّد فرق لا يظهر له أثر في الشرع مع وجود الأوصاف المقتضية للجمع، أو يَجمع بين متفرِّقين بمجرَّد الأوصاف الطارئة التي هي غير مناسبة، ولا يدل دليل على أن تأثيرها في الشرع، فهذا النظر والبحث غير مرضي ولا محمود، مع أنه قد وقع فيه طوائف من الفقهاء، وإنما المحمود النظر الموافق لنظر الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من القرون المفضلة؛ كابن عباس ونحوه.
وبعد إيراد أقوال عديدة عن الزهد ومعناه وحدوده، يُورد قول أبي سليمان الداراني: الزهد في ترك ما أشغلك عن الله - عز وجل.
يقول ابن رجب (ص: 277): وهذا الذي قاله أبو سليمان حسن، وهو يجمع جميع معاني الزهد وأقسامه وأنواعه.
ومِن أبدع ما قاله وتفطن إليه، وردَّ به على بعض من يخول له التقليد الأعمى، بل حتى الاجتهاد، وقد نوى انتصارًا لمذهب - قوله في (ص: 311): وهنا أمر خفي ينبغي التفطُّن له، وهو أن كثيرًا من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحًا ويكون مجتهدًا فيه مأجورًا على اجتهاده فيه، موضوعًا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصِر لمقالته تلك بمنزلتِه في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله؛ بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لَما قبِله، ولَما انتصر له، ولا والى مَن يوافقه، ولا عادى مَن خالفه، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعِه، وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع، فقد شابه انتصاره لما يظنه الحق إرادة علوِّ متبوعه وظهور كلمته، وأنه لا يُنسب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدحُ في قصد الانتصار للحق، فافهَم هذا؛ فإنه مهمٌّ عظيم، والله يَهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.
وفي العادات الاجتماعية يُنبِّهنا ابن رجب إلى ما يُصادِفه المسلم يوميًّا من أمور قد لا يأبهُ بها، بينما تكون لها أحكام شرعية يجب التقيد بها.
خرَّج أحمد، وأبو داود، والترمذي، عن السائب بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبًا جادًّا، فمَن أخذ عصا أخيه فليردَّها إليه"، قال ابن أبي عبيد: يعني أن يأخذ شيئًا لا يريد سرقته، إنما يريد إدخال الغيظ عليه، فهو لاعب في مذهب السرقة، جادٌّ في إدخال الرَّوع والأذى عليه؛ (ص: 316).
وقد يقاس على هذا أمورٌ كثيرة تحدثُ بين الأصدقاء، ولا يجدون فيها بأسًا، فقد يتآمر اثنان أو ثلاثة على واحد ليأخذوا منه - خفيةً - شيئًا عزيزًا عليه، ويُخبِرونه بذلك، ولكن لا يدلُّونه عليه بالرغم من حاجته إليه، أو طلبه لإعادته، فيغتاظ لذلك، وقد يقاس على هذا المسبحة، والقلم، والمفتاح... إلخ.
ويبدع ابن رجب عندما يتطرَّق إلى نواحي الخدمة الاجتماعية في المجتمع المسلم، وكيف أن التكافل الاجتماعي يُعطي القوة والتماسك بين أفراده ويورث الحب والعمل.
وأكتفي بنقل بعض الأمثلة (ص: 322) لأستدلَّ بها على تكافل المجتمع المسلم، أو هكذا ينبغي أن يكون المسلمون:
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يَحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف قالت جارية منهم: الآن لا يَحلبها، فقال أبو بكر: بلى وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلتُ فيه عن شيء كنت أفعله، أو كما قال.
كان عمر يتعاهد الأرامل؛ يستقي لهن الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا هي عجوز عمياء مُقعَدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا مذ كذا وكذا يتعاهَدُني، يأتيني بما يُصلِحني ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعورات عمر تتبع؟!
كان أبو وائل يطوفُ على نساء الحي وعجائزِهن كل يوم، فيَشتري لهنَّ حوائجهن وما يُصلِحهن.
قال مجاهد: صحبتُ ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني، وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم في السفر.
وفي شرحه الحديث الحادي والأربعين: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به"، كان مما قاله (ص: 266):
جميع المعاصي إنما تنشَأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه؛ فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [سورة القصص: 50]، وكذلك البدع إنما تنشَأ من تقديم الهوى على الشرع؛ ولهذا يُسمَّى أهلها: أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ورسوله ومحبة ما يُحبه، وكذلك حبُّ الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن محبة الله، ومحبة مَن يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عمومًا.
(نشر في مجلة "التوباد"، المجلد الثاني، العددان الأول والثاني، محرم - جمادى الآخرة 1409هـ، سبتمبر - مارس 1989م).