الوقف وبنية المكتبة العربية للأستاذ يحيى ساعاتي (عرض وتحليل)

كلمات من الكتاب:

ظهرت فكرة أول مكتبة عامة في القرن الهجري الأول بمكة المكرمة.

يمثل الوقف صميم النهضة العلمية على مدار القرون في تاريخنا الإسلامي.

ساهم في وقف الكتب والمكتبات الحكام والوزراء والعلماء والأثرياء.

جميع المدارس التي أنشئت في التاريخ الإسلامي كانت تعتمد على الوقف.

التعليم كان مجانيًّا ولمختلف الطبقات.

لم يكن يمنع أحد من دخول المكتبات.

دار العلم في بغداد كان يقصدها العلماء والأدباء من الآفاق.

دار الحكمة في القاهرة كانت من عجائب الدنيا.

أكثر المعلومات في "معجم البلدان" من خزائن الكتب الوقفية.

كانت البداية هي وقف المصاحف على الجوامع عام 118هـ.

وقف ابن خلدون نسخة من تاريخه على مكتبة جامع القرويين.

لم تخلُ مدرسة واحدة في بقاع العالم الإسلامي من مكتبة تابعة لها.

المدرسة البيهقية في نيسابور أقدم مدرسة فيها مكتبة وقفية.

لماذا وقعت أزمة في سوق الكتاب في عصر المستنصر بالله؟!

المدرسة الضيائية بدمشق كان فيها خط الأئمة الأربعة.

أصبح الكتاب جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان في أصقاع العالم الإسلامي.

أقدم ما عُرف في تاريخ المكتبة العربية هو المكتبة الطبية التابعة للمستشفيات.

أسند الخليفة الناصر لدِين الله عملية اختيار الكتب إلى أبرز شخصية علمية.

تولى أمانة المكتبة مجموعةٌ من أشهر العلماء والأدباء.

كان الحافظ ابن حجر العسقلاني أمينًا لإحدى المكتبات العامة.

اشترط في أمين المكتبة أن يكون أمينًا، نزيهًا، قادرًا على القيام بخدمة الكتب، عارفًا بترتيبها.

العقاب الشديد لأمين المكتبة المقصر.

تمهيد:

لوحة عربية رسمت عليها خطوط من حبر قديم، تحكي قصة أوراق وحروف كانت رمزًا وعنوانًا لحضارة، حملها الخلفاء، وحفظها العلماء، وأوقفها السلاطين والأمراء، وسارع إلى طلب الأجر من ورائها الأثرياء والنبلاء، واجتمع على شرائها الفقراء، حتى أصبحوا بها أغنياء، سادة وعلماء، وأوصى بها الآباء، وتندَّر بها الجلساء، وتغزَّل بها الفقهاء.

حروف وكلمات سهرت عليها أعين وأيادٍ بيضاء، تحفر الظلام، وتشق إليه النور في جداول الكتاب، فيعطي الشموع، ويضيء الدرب، ويمنح العطاء.

سفرة في لون الأرض تتمايل عليها سنابل خضراء غنية، مملوءة بالماء والغذاء، مائدة عامرة بأصناف العقود، تبتسم وتتلألأ في أبهة ودلال.

ولحظة سماح منك - عزيزي القارئ - إن كنت قد شغلتك بما كان يجول في خاطري فسطرته على ورقة.

إنها تحية تقدير لمادة هذا الكتاب، الذي يبحث في جانب مُشرق من جوانب حضارتنا الإسلامية، عمرته وهذبته نفوس "نورانية" كانت ترى في نشر العلم، ووقف الكتاب، والإنفاق على طلبة العلم: قمة سعادتها وسرورها.

وهي أيضًا تعبير عن إعجابي وتقديري لجهد المؤلف، وأسلوب تقديمه، وكيفية معالجته، وفتحه لباب عظيم من أبواب تاريخنا الإسلامي، وقطعة من تاريخ العلم والعلماء، ما زلنا نفخر به، ونلهج بذكره أمام العالمين.

وأرجو أن يعذرني القارئ في أسلوبي لعرض الكتاب، فلن يكون منهجيًّا مثل منهجية الكاتب في كتابه، إلا أن فيه القراءة السريعة، والوقفات المتأنية، والهدف هو تقريب هذا الجانب الحضاري إلى سمع القارئ وذاكرته، من خلال محتوى هذا الكتاب الفريد، الذي لم تصنَّف مادته في كتاب مستقل من غير هذا!

وأول ما يلفت نظرنا عندما نقلب صفحة الغلاف، هو إهداء المؤلف عمله إلى روح عبدالحكم الجمحي، مؤسس أول مكتبة عامة في القرن الهجري الأول بمكة المكرمة!

إنه وفاء من المؤلف لتخصصه.

كما أنه طرق لأبواب نفوس غطتها أتربة وأشنان، وتحريك لمفاتيح الخزائن ذات الصفائح الغليظة التي لا يدرى ما فيها، وتذكير لقلوب واعية بأن مَن سن سنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

وعلى غير عادة الكاتب المنهجية - التي يرتب فيها النتائج على المقدمات - لا يخشى أن يضع أمامنا في التمهيد نتيجةً توصل إليها، لم نحسب لها ذلك الحساب؛ حيث وجد "أن الوقف يمثل بؤرة النهضة العلمية والفكرية العربية والإسلامية على مدار القرون؛ حيث أسهم الواقفون - من حكام، ووزراء، وعلماء، وأفراد - في مساندة المسيرة العلمية، وبالتالي إتاحة المعرفة لجميع طبقات المجتمع دون أدنى تمييز"، ويعد كتابه كله برهانًا على هذه النتيجة.

كما يبين أن الوقف قد ساهم في إرساء دعائم ثقافية متنوعة في المجتمعات الإسلامية على مدى قرون طوال، من بينها:

  • تشييد المدارس، وتعيين المدرسين فيها، والإنفاق على طلبة العلم.
  • الاستفادة من المساجد في التعليم، بإيجاد زوايا العلم وحلقات الدرس.
  • العناية بتوفير مصادر للمعلومات في المدارس والمساجد، والربط والبيمارستانات.

ولم تكن المدارس مجردَ أبنية تقام، أو مجموعة من الطلاب يتلقون العلوم فيها على مدرسين في زمان ومكان محددين، بل كان أكثرها على شكل مؤسسات علمية راقية، لها نظمها الخاصة التي تسير عليها، وتقاليدها التي ترعاها، ومواردها التي تعتمد عليها في أداء رسالتها.

"فالمدرسة المستنصرية" في بغداد، التي فرغ من بنائها في عام 631هـ، بدأ التعليم فيها وفق نظام دقيق؛ إذ إنها - كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية - "وقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة اثنان وستون فقيهًا، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئان، وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتبة للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة، ما فيه كفاية وافرة لكل واحد".

المؤكد أن جميع المدارس التي أنشئت في التاريخ الإسلامي كانت تعتمد على الوقف، على الرغم من تنوُّعها من حيث الحجم والإمكانات.

ويوضح الدكتور مصطفى السباعي - يرحمه الله - في كتابه الرائع "من روائع حضارتنا" أن التعليم كان مجانيًّا ولمختلف الطبقات، فلم يكن يدفع الطلاب في دراستهم الثانوية والعالية رسمًا ما من رسوم الدراسة، ولم يكن التعليم فيها محصورًا في فئة من أبناء الشعب دون فئة، بل كانت فرصةُ التعليم متوافرةً لجميع أبناء الشعب، وكان يجلس فيها ابن الفقير بجانب ابن الغني، وابن التاجر بجانب ابن الصانع والمزارع، وكانت الدراسة فيها على قسمين: قسم داخلي للغرباء، والذين لا تساعدهم أحوالهم المادية على أن يعيشوا على نفقات آبائهم، وقسم خارجي لمن يريد أن يرجع في المساء إلى بيت أهله وذويه.

ظهور المكتبات العامة:

في بداية الفصل الثاني ينقل لنا المؤلف نصًّا يشير إلى اتخاذ بيت ووضع كتب فيه، إلى جانب بعض وسائل التسلية لإفادة الناس، وكان ذلك في القرن الأول الهجري، وصاحب المكتبة هو عبدالحكم الجُمحي، الذي أهدى المؤلِّفُ كتابَه إلى رُوحه، وقد ذكر الكاتب في غير مكان أن هذا الاتجاه بين المسلمين كان سابقًا منذ مئات السنين للاتجاه الغربي في إنشاء مكتبات عامة تملِك وسائل ترفيه وتسلية لجذب عامة القراء.

وقد ظهرت أوائل دُور الكتب الوقفية - أي: المكتبات العامة في مفهومنا المعاصر - في القرن الرابع الهجري، ومن هذه الدُّورِ:

  • "دار العلم" في الموصل، أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد الشافعي في أواخر القرن الثالث الهجري، جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم، وقفًا على كل طالب للعلم، لا يُمنَع أحد من دخولها"؛ كما في معجم الأدباء.
  • و"دار العلم" في البصرة، أنشأها أبو علي بن سوار الكاتب، في أواخر القرن الرابع، وصفت بأنها (لم يرد في الإسلام مثلها).
  • و"دار العلم" في بغداد - وعرفت فيما بعد بدار الكتب القديمة - أوقفها أبو نصر سابور بن أردشير سنة 381هـ، وجعل فيها (10400) مجلد، منها مائة مصحف بخطوط بني مقلة، كان يقصدها العلماء والأدباء من الآفاق.
  • و"بيت الكتب" بالري الذي أنشأه الصاحب بن عباد، وكانت جملة ما فيه من الكتب تحمل على أربعمائة جمل أو أكثر، وفهرستها فقط كانت عشرة مجلدات.
  • و"دار الحكمة" في القاهرة التي أسسها الحاكم بأمره، الخليفة الفاطمي، افتتحت يوم السبت العاشر من جمادى الآخرة سنة 395هـ، وكانت على درجة كبيرة من الأهمية في تاريخ المكتبات في الإسلام، حتى قال عنها المقريزي: كانت من عجائب الدنيا... ومن عجائبها أنه كان فيها ألف ومائتا نسخة من تاريخ الطبري، إلى غير ذلك، ويقال: إنها كانت تشتمل على ألف وستمائة ألف كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة أشياء كثيرة.
  • وخزانة الوزير أبي القاسم الحسن بن علي المغربي، ت 428هـ، في ميافارقين، التي كانت ذات شهرة عالية.
  • و"دار الكتب" في فيروز آباد، أنشأها الوزير قوام الدولة عماد الدين بن مامتة، ت 433هـ التي احتوت على سبعة آلاف مجلد، من ذلك أربعة آلاف ورقة بخط أبي علي وأبي عبدالله بن مقلة.

وبما أن فيروز آباد مدينة صغيرة من مدن فارس، فإن المؤلف استنتج أن هذا الأمر يعطي صورة عن انتشار دور الكتب في مدن العالم الإسلامي كبيرها وصغيرها في ذلك الحين.

  • و"دار كتب الصابئ" في بغداد، أسسها أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن الصابئ سنة 452هـ، واحتوت على أربعة آلاف مجلد في فنون العلم، كما يقول ابن كثير.
  • و"خزانة الكتب" في حلب أوقفها نور الدين محمود بن زنكي، وكان فيها عشرة آلاف مجلد، وأحرقت بسبب ما كانت تتضمنه من مؤلَّفات موجَّهة ضد الإسماعيلية.
  • و"دار العلم" في طرابلس الشام، وذكر فيها رقمًا خياليًّا من الكتب، منها خمسون ألف نسخة من القرآن الكريم، وثمانون ألف نسخة تفاسير.
  • و"دار الكتب في ساوة" - مدينة بين الري وهمذان - يقول عنها ياقوت الحموي: "كان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها".
  • و"خزانة المالكية" في مكة المكرمة، كانت تهتم بالدرجة الأولى بمصنفات المذهب المالكي.
  • و"خزانة كتب الهمذاني" في همذان، وهو الحافظ المحدث قطب الدين الحسن بن أحمد، ت 569هـ، يقول ابن الفوطي عنه: إنه "قد عمل لنفسه خزانة كتب أوقف جميع كتبه فيها".
  • و"خزانة كتب مباركشاه" في مرو الرُّوذ، تحتوي على أنواع العلوم.
  • و"دار العدة" في فجيج في المغرب، وقفها عبدالجبار بن أحمد الفجيجي، ت 920هـ، وكانت بحمولة أربعين بعيرًا، جاء بمعظمها من فارس وتلمسان ومصر، وكما جاء في كتاب الوقف لهذه المكتبة أنها حبس معقب، لا يورث، ولا يقسم، ولا يباع، ولا يوهب.
  • و"مكتبة محمد راشد أفندي، في قيصري بتركيا، ت 1211هـ، ووقف فيها 925 مجلدًا مخطوطًا، و18 مجلدًا مطبوعًا قديمًا، وتطورت مجموعة المكتبة حتى وصل عدد محتوياتها اليوم إلى سبعة آلاف كتاب مخطوط ومطبوع.
  • و"مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت" بالمدينة المنورة، ت1275هـ، وهي باقية حتى اليوم، وكان صاحبها قد أنفق أموالاً كثيرة في سبيل اقتناء الكتب التي وقفها حتى تجمعت له من أقطار الأرض المختلفة أنفَسُ الكتب وأجملها وأعلاها شأنًا وأغلاها قيمة، وقد كتب بيده على صفحة عنوان أحد المخطوطات أنه دفع مبلغ أربعمائة جنيه عثماني ذهبي لشرائه.
  • والخزانة العلمية الصبيحية بسلا، حبسها باشا سلا السابق، الحاج محمد ابن الحالج الطيب الصبيحي في يوم الاثنين 14/3/1378هـ، لتكون وقفًا على العلماء وطلبة العلم وعامة القراء مثل المكتبات السابقة، وكانت تشتمل على أربعة آلاف كتاب مخطوط ومطبوع، وقد وضع محمد حجي فهرسًا لمخطوطات هذه المكتبة تضمن تعريفًا بـ 1337 مخطوطًا، نشره معهد المخطوطات العربية بالكويت، جاء في 722 ص.

وكانت هذه المكتبات الوقفية إضافة إلى المكتبات الخاصة - مثل مكتبات الخلفاء والأمراء والوزراء والعلماء - وراء حركة الازدهار الفكري والثقافي التي شهدها العالم الإسلامي على مدى قرون طويلة؛ فقد اعتمد عليها علماء مشاهير - كما يقول المؤلف - في وَضْع مصنفاتهم، من مثل ياقوت الحموي الذي يشير إلى استفادته من خزائن كتب مرو الشاهجان؛ حيث يقول: "وأكثر فوائد هذا الكتاب - يقصد معجم البلدان - وغيره مما جمعته، فهو من تلك الخزائن".

وكانت هذه الدور سابقة للمدارس، ومن هنا أصبحت ملاذًا للدارسين ومركزًا للعلماء الذين كانوا يلتقون فيها.

مكتبات الجوامع والمدارس:

وكانت البداية هي وقف المصاحف على الجوامع، وبدأت باقتراح من القاضي توبة بن نمر الحضرمي في عام 118هـ.

وقد استحوذ القرآن الكريم على اهتمام الواقفين، وشكَّلت المصاحف نواة المكتبات الكبيرة التي تأسست في الجوامع والمساجد فيما بعد، عندما ازدهرت الحركة العلمية، ويذكر المؤلف أن الجوامع خلال القرون الثلاثة الأولى لعلها لم تخلُ من كتب مصنفة في علوم القرآن الكريم والحديث الشريف، وإن كانت النصوص التي تؤيد هذا الرأي غير متوافرة لنا حتى الآن، ولكن من المؤكد أن القرن الرابع شهد بدايات وقف الكتب بشكل واسع في الجوامع والمساجد.

وأول ما يورده المؤلف هنا هو ما أوقفه الشاعر الكاتب أحمد بن يوسف المنازي المتوفى سنة 437هـ، من مكتبة حافلة على جامعي آمد وميافارقين.

وأوصى الطبيب ابن جزلة لتكون كتبه وقفًا بجامع أبي حنيفة في بغداد.

وكان الجامع الأزهر يضم مكتبةً خاصة به.

وكذلك جامع نيسابور.

وجامع حلب.

وجامع الزيدي في بغداد.

وجامع أصفهان.

والمسجد النبوي بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام، وقد تكونت بها مكتبة كبيرة كانت حصيلة ما وقفه الملوك والحكام والعلماء والأثرياء في مراحل تاريخية مختلفة.

ومكتبة كبيرة جدًّا في الجامع الأموي في دمشق.

ومكتبة جامع الحاكم بالقاهرة، التي ظلت باقية حتى عهد المقريزي.

والجامع الظاهري بالقاهرة.

وجامع القرويين بفاس، الذي وقف سلاطين المغرب من بني مرين عدة خزائن من الكتب على طلبة العلم، كما وقف ابن خلدون نسخة من تاريخه بعد أن أتمه على مكتبة هذا الجامع لا يزال فيها مجلدان على غلاف أحدهما نص عبارة الوقفية حتى اليوم.

ومسجد الرضواني في تعز.

والجامع الجديد بالصالحية الذي درس فيه جماعة، منهم جمال الدين بن طولون، الذي وقف كتبه عليه.

وجامع الزيتونة في تونس، وقد ضم مجموعات كبيرة من الكتب الوقفية على مدار السنين.

وجامع أزبك الأشرفي في القاهرة.

والجامع الظافري في زبيد.

وجامع أبي الذهب في القاهرة، الذي أسسه محمد بك أبو الذهب، الذي حكم مصر منذ عام 1187هـ، ووقف بمسجده مكتبة.

ومكتبة الحرم المكي التي أوقف فيها الحكام والأمراء والعلماء والوزراء وبعض الحجاج كتبًا كثيرة.

وهذه نماذج متواضعة - كما يقول المؤلف - تعبر عما كانت تحظى به المساجد والجوامع من عناية الواقفين المهتمين بأمور العلم.

وكانت هذه الجوامع مدارس للعلم قبل ظهور فكرة المدارس المنظمة.

  • أما عن وقف الكتب والمكتبات على المدارس، فيقول المؤلف:

"يمكن للمرء أن يجزم أن مدرسةً واحدة في بقاع العالم الإسلامي القديم ما كانت تخلو من مكتبة تابعة لها، بغض النظر عن حجمها وموقعها".

ومن أقدم المدارس التي احتوت على مكتبات وقفية:

"المدرسة البيهقية" في نيسابور، ويعود تاريخها إلى القرن الرابع الهجري، وكانت متخصصة في علم الحديث.

و"المدرسة النظامية" في بغداد، ولعلها أول مدرسة تقوم على أسس منظمة، ويحتفل بافتتاحها على نطاق الدولة، أنشأها مع أُخريَيْنِ - حملتا الاسم نفسه - في نيسابور وطوس: الوزير نظام الملك، و"المدرسة الفخرية" ببغداد، كان بها خزانة كتب جامعة لأنواع العلوم، ومدرسة شرف الملك المستوفي" في مرو، كان قد وُقِف بها كتب نفيسة، و"المدرسة النورية" في حلب: أنشأها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، و"مدرسة عبدالقادر الجيلي" في بغداد، و"المدرسة العادلية" في دمشق.. ولها قصة غريبة! و"المدرسة الفاضلية" بالقاهرة، التي يقال: إن كتبها الموقوفة كانت تزيد على مائة ألف مجلدة، وكانت كلها للقاضي الفاضل أبي علي عبدالرحيم البيساني المتوفى سنة 596هـ، و"مدرسة نظام الملك" في خوارزم، و"مدرسة ابن الجوزي" في بغداد، وصاحبها العالم المعروف أبو الفرج ابن الجوزي وقف كتبه عليها، و"المدرسة العمرية" في دمشق، وهي مِن وقف أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة الحنبلي، أوقف فيها كتب السيد الحسيني وقوام الدين الحنفي والشمس البانياسي والمحدث جمال الدين الحنفي والشمس البانياسي والمحدث جمال الدين بن عبدالهادي وشهاب الدين بن منصور، وفي هذه المكتبة مصحف الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، و"المدرسة البهنسية" في دمشق أنشأها الوزير مجد الدين أبو الأشبال الحارث بن مهلب وزير الملك الأشراف مظفر الدين موسى بن الملك العادل أيوب، و"المدرسة المستنصرية" في بغداد، التي كان لها دور كبير في تاريخ التعليم في الإسلام، أنشأها الخليفة المستنصر بالله، ووقفت على المذاهب الأربعة.. وأنفق أموالاً طائلة لجمع أكبر قدر من الكتب فيها، مما أدى إلى وقوع أزمة في سوق الكتاب في عصره، عبر عنها ابن النجار بقوله: "وبِيعت كتب العلم في أيامه بأغلى الأثمان لرغبة فيها ولوقفها"، وقال عنها آخر: "ووُقف فيها كتب نفيسة ليس في الدنيا مثيلها"، وذكر ثالث أن ما نقل إليها يصل إلى مائة وستين حملاً من الكتب النفيسة، و"المدرسة الضيائية" بدمشق: أنشأها الحافظ ضياء الدين المقدسي، ووقف عليها كتبه، وكانت كثيرة عظيمة، جملة منها كانت بخط يده، ووقف عليها كتبًا مجموعة من العلماء، منهم الموفق والبهاء وعبدالرحمن والحافظ عبدالعزيز وابن الحاجب وابن سلام وابن هائل والشيخ علي الموصلي والحافظ عبدالغني وغيرهم، ويقال: إنه كان فيها خط الأئمة الأربعة.. بل حتى التوراة والإنجيل، و"المدرسة البشيرية" في بغداد: أسستها حظية الخليفة المستعصم أم ولده أبي نصر المعروفة بباب بشير، وجعلتها وقفًا على المذاهب الأربعة.. وقِسْ على هذه المدارس وما وقف فيها من كتب ثمينة من خلفاء وأمراء وعلماء وأهل الخير:

"دار الحديث الأشرفية" بدمشق، "دار الحديث الفاضلية" بالكلاسة، "المدرسة البادرائية" بدمشق، "المدرسة المؤيدية" في تعز، "المدرستان الظاهرية والناصرية" بالقاهرة، "مدرسة ابن بطال الركبي" بذي يعمد، "المدرسة الشهابية" بالمدينة المنورة، "مدرستا ابن قاضي العسكر والحجازية" في القاهرة، "المدرسة الجوزية" بدمشق، "مدرسة الرضواني" في زيد، "المدرسة النصرية اليوسفية" في غرناطة، "مدارس: الصرغتمشية والمحمودية والجاي والأشرف شعبان والناصية والعنتابي" في القاهرة، "مدرسة السلطان الأشرف ابن رسول" في تعز، "مدرستا أعظم شاه وقايتباي الجركسي" في مكة المكرمة، "المدرسة الشامية البرائية" في دمشق، "مدرسة النظاري" في إب، "مدرسة أحمد باشا حضربك" في بروسة، "مدرستا الطبقجلي والمرجانية" في بغداد، "المدرسة الحفظية" في عثالف بعسير.. وعشرات المدارس الأخرى التي كانت تضم مكتبات وقفية حافلة بقي بعضها حتى عهد قريب.

وبعد جولة طويلة بين هذه المدارس يقول المؤلف مشيدًا بالخطط السليمة التي كان ينتهجها القائمون على التعليم في البلاد الإسلامية:

"وتؤكد هذه النظرة الراقية لأهمية وجود مكتبة في كل مدرسة والحرص على وقف الكتب فيها من قِبل فئات المجتمع كافة، أسبقية العرب والمسلمين في إدراك العلاقة الوثيقة بين العملية التعليمية وتوفير المكتبة داخل المدرسة لإخراج الطالب من دائرة الاعتماد على ما يسمعه ويتلقاه من مدرسين، إلى عالم أوسع وأرحب يحصل منه على ثقافة أكثر عمقًا عند تردده على المكتبة واستفادته من محتوياتها".

وقف الكتب والمكتبات على جهات مختلفة

وقد تجاوز وقف الكتب والمكتبات دور الكتب العامة والجوامع والمدارس إلى أنماط أخرى، مثل البيمارستانات (المستشفيات) والربط والخانقاهات والترب والأشخاص والذرية.. وهذا يدل على أن الكتاب قد أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان في أصقاع العالم الإسلامي لا يُستغنى عنه!

والعجيب في الأمر - كما يقول الكاتب - أن تكون مكتبات البيمارستانات من أقدم ما عرف في تاريخ المكتبة العربية، على الرغم من التخصص الدقيق للبيمارستان.

ومن أقدم هذه البيمارستانات وأشهرها: البيمارستان الذي أنشأه أحمد بن طولون في القاهرة عام 259هـ، وكان بمثابة مستشفى وكلية طب، وجعل فيه خزانة كتب احتوت على ما يزيد على مائة ألف مجلد، ثم تأتي مكتبات بيمارستانات: العضدي في بغداد، ونور الدين زنكي في دمشق، والمنصوري في القاهرة.

أما الربط والخانقاهات، وهي مأوى الصوفية والفقراء والغرباء، فقد كان معظمها يجاور المدارس والجوامع، وتشبه إلى حد كبير مساكن الطلاب، وقد أُنشئت بداخلها مكتبات كي يلجأَ إليها الطلاب عند الرغبة في البحث والمطالعة خارج أوقات الدراسة الرسمية.

ومن أشهر الربط التي كانت تضم مكتبات: الرباط الطاهري في بغداد، الذي أنشأه الخليفة العباسي الناصر لدين الله عام 589هـ، ويميل الكاتبُ إلى أن هذا الخليفة المحب للكتب والمكتبات هو أول من أشاع ظاهرة مكتبة الرباط، فتكونت مكتبات كبيرة في ربط مختلفة.. في أرجاء العالم الإسلامي، واشتهر أمرها حتى أصبحت تُقصَد من قِبل العلماء.

ومن الربط المشهورة في مكة المكرمة التي احتوت على مكتبات وقفية: رباط ربيع، والشرابي، والسدرة، والأبرقوهي، والخوزي، والموفق، والصفا، وقايتباي.

وفي المدينة المنورة: رباط عثمان بن عفان، وقراء باشي، والجبرت، ومظهر الفاروقي.

وفي بغداد: رباط المأمونية، والزوزني، وابن النياز.

وفي دمشق كانت خانقة السميساطية.

كما عمد بعضهم إلى وقف مكتبات في المقابر والترب، ولا شك أن هذه المكتبات كانت تستخدم ..، وترِد في كتب التراث مئات النصوص التي تشير إلى قضايا تتعلق بوقف الكتب دون تحديد للمكان، وتوضح مثل هذه النصوص مدى انتشار ووقف الكتب بين فئات المجتمع كافة وعلى امتداد القرون، وذكر المؤلف طائفة غير قليلة من هذه الأخبار.

التنظيم والإدارة:

هنا يدخل المؤلف في عمق الموضوع الذي يبحث فيه، والذي اختار منه عنوان الكتاب، ويقول بأننا نصل هنا إلى قناعة أشدَّ بأن الوقف كان أساس بنية المكتبة العربية؛ فهو وإن كان سببًا في قيامها، فقد كان منطلق تنظيمها وإدارتها على ركائز وقواعد محددة في الغالب.

ويتحدث المؤلف في دراسة متأنية مع أمثلة عن طرق إثبات الوقف الثلاثة:

أ - كتابة نص الوقفية على الكتاب نفسه.

ب - كتابة وثيقة وقف شاملة تبين الحدود والأهداف العامة، وتسجل أمام القضاء الشرعي.

جـ - ختم صفحة العنوان وصفحات غيرها أحيانًا بخاتم يدل على الوقف.

ويتضح مما ذكره أن نصوص الوقف المدونة على الكتب أو الأختام كان يقصد منها إشهار الوقف لمنع العبث به أو بيعه، أو التهاون في حفظه، وأغلبها كان يختم بالآية: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181]، وغالبية هذه النصوص توضح مسائل تتعلق بالتصرف في أمر الكتاب الوقفي، وطرق استخدامه، وحفظه، والناظر عليه، واسم الواقف، وأحيانًا الأسباب التي دفعت إلى هذا الوقف.

وأبنية المكتبات الوقفية تكون في بناء مستقل إذا كانت عامة، وتلحق بأبنيتها إذا كانت في مساجد أو مدارس أو ربط.

اختيار الكتب: فقد كان مسألة في غاية الأهمية، يوحي بذلك ما قيل من أن الخليفة الناصر لدين الله قد أسند هذه العملية إلى شخصية علمية بارزة، وهو مبشر بن أحمد الملقب بالبرهان، وكان أوحد زمانه، فاضلاً كثير المعرفة.

وسبل تزويد المكتبات الوقفية كانت:

بالبحث عن الكتاب في سوقه، ومن ثم شرائه.

بما كان ينسخه بعض العلماء من كتب خلال حياتهم..، ومن ثم وقفها قبل وفاتهم أو بعدها.

بوضع اليد على وقف سابق.

بشراء الوقف من الورثة!

وكان بين المؤلفين من يحرص على وقف نسخة من أعماله في إحدى المكتبات الوقفية.

وكانت مهمة الإشراف على الكتب الوقفية وتيسير أمر الاستفادة منها تناط في حالة المجموعات المفردة إلى ناظر يكون مسؤولاً عن حفظها، ولكن حقيقة التنظيم الإداري نجده في المكتبات الوقفية؛ إذ تشتمل نصوص الوثائق الوقفية عادة على ما ينظم أمرها، خاصة من يتولى شؤون إدارتها وحفظها وخدمة المترددين عليها، وهو خازن الكتب، أو شاهد خزانة الكتب؛ أي: أمين المكتبة حسب مصطلحنا المعاصر.

ويقول محمد أمين في كتابه الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر: "حددت وثائقُ الوقف مهمة أمين المكتبة في العصر المملوكي بالتفصيل، وتبدأ هذه المهمة بأن يقوم الناظر بتسليم الكتب إلى أمين المكتبة، ويشهد عليه بتسليمها، ثم يتولى خازن الكتب بعد ذلك حسب ما جاء بوثائق الوقف إحراز الكتب المذكورة ونفضها من الغبار وتعهدها".

وكانت هناك ميزات يشترط توفرها في أمين المكتبة تنص عليها الوثائق الوقفية، مثل أن يكون: أمينًا، نزيهًا، قادرًا على القيام بخدمة الكتب، عارفًا بترتيبها.

وقد أورد المؤلف حادثة تدل على أن العقوبة على الأمين المقصر كانت قاسية؛ فقد عزل الأمين الأول، في حين عوقب الأمين الثاني.. بأن ضرب أمام السلطان وغرِّم بدفع قيمة ما ضاع من كتب، فاضطر إلى بيع كتبه وداره! أما الذي تولى أمرها - مكتبة المدرسة المحمودية بالقاهرة - فكان ابن حجر العسقلاني.

.. وكان التنظيم يتم حسب الموضوعات، بحيث توضع كتب كل علم بجوار بعضها، ولكل مكتبة فهرس خاص بها ينم عن محتوياتها، يستخدمه القاصد للتعرف على الكتب التي تضمها، فيطلب ما يحتاج إليه.

ولتنظيم سبل الاستفادة منها وضعت قواعد تتركز في نقطتين:

1 - تحديد المستفيدين.

2 - تحديد طريقة الاستفادة.

ومن الواضح أن استخدام المكتبة يكون بوجه من الأوجه الثلاثة الآتية:

1 - القراءة داخلها.

2 - الاستعارة لقراءة بعض ما يحتاج إليه الفرد في مكان خارج المكتبة.

3 - استنساخ كتاب أو مجموعة كتب يشعر ناسخُها بأنها ذات قيمة علمية خاصة بالنسبة لمجال تخصصه.

وقد بين المؤلف هذه الوجوه، كما ذكر مواعيد فتح المكتبات، والتنظيم المالي لها بالتفصيل.

مآل الكتب والمكتبات الوقفية:

وكان الفصل السادس والأخير من الكتاب عن مصائر الكتب والمكتبات الوقفية، وقد ذكر المؤلف أنها مرت بمرحلتين:

أ - مرحلة الانفراط: وذلك نتيجة الفتن والقلاقل والتغيرات السياسية، واستغلال الكتب الموقوفة ونهبها من قِبل بعض العلماء، وتفريط المشرفين على المكتبات وسوء إدارتهم.

ب - مرحلة لَمِّ الشتات، وهي مرحلة قريبة العهد، نبعت في أذهان أفراد هالَهُم ضياع الوقف الخاص بالكتب والمكتبات.. فكان أن عملوا على لَمِّ شتات ما بقي من مخطوطات وقفت على مدارس أو جوامع متناثرة في مكتبات مركزية حديثة تحفظ فيها تلك المخطوطات، ومن تلك الدور التي ذكرها المؤلف كأمثلة: "دار الكتب المصرية"، و"المكتبة الظاهرية" بدمشق، و"مكتبة الأوقاف العامة" في بغداد، و"مكتبة الملك عبدالعزيز" بالمدينة المنورة، و"مكتبة الأوقاف" بحلب، و"مكتبة الأوقاف" في الموصل.

النتائج والتوصيات:

ونختار من بينها النتائج الإيجابية التي وصل إليها الكاتب، وهي بإيجاز:

المكتبة التي تهدف إلى أن تخدم قطاعًا واسعًا، ويقصد منها أن تكون معدة لاستقبال الباحثين والطلاب والدارسين عرفت عند العرب والمسلمين منذ بداية الأمر اعتمادًا على الوقف.

المكتبة الوقفية تشكل بنية المكتبة العربية منذ القرن الرابع الهجري إلى أواخر القرن الثالث عشر.

وقف الكتب عند العرب والمسلمين كان العامل الأساسي والمهم في نشر الثقافة، وتوسع دائرة المعرفة لدى الطلاب والدارسين على مدى قرون طويلة.

تُظهر الدراسة عمق الإحساس لدى قادة الفكر والثقافة في القرون السالفة بأهمية توفير الكتاب، وتوفير السبل التي تساعد على الاستفادة منه على نطاق واسع، الأمر الذي أدى إلى أن يكون في مدينة مثل مرو في القرن السابع الهجري عشر مكتبات في وقت واحد، جميعها عامة، نتيجة اعتمادها على الوقف.

وقد أوصى الكاتب بما يلي:

1 - ضرورة العودة إلى الوقف ليكون طريقًا نحو بناء حركة مكتبة زاهرة في العالم العربي كما كان عليه الأمر في الماضي، وهو ما يتطلب بث الوعي بين الأثرياء والعلماء باتخاذ هذا الأسلوب ليكون مصدرًا من مصادر العمل الخيري البناء للمجتمع.

2 - الاستفادة من تجرِبة الأسلاف التي تركزت على المواكبة بين حلقات الدرس المفتوحة، وتشييد المكتبات لترفد ثقافة الطالب ما يمكنه من التوسع والاستزادة، ومن ثَم تكوين شخصية علمية متميزة للدارسين.

3 - التأكيد على الدور الحضاري الرائع للمكتبة العربية التي يمكن أن نعتبرها القاعدة التي أدت إلى قيام تلك الحضارة العربية في المجال العلمي والإنساني، والتي نفاخر بها اليوم.

4 - تعميق الوعي بين الدارسين المعاصرين بقضية المكتبة من خلال التركيز على دراسة جانب منها في كتب التاريخ المدرسية، ليلم الطالب منذ البداية بأهمية المكتبة وأسبقية "العرب" في العناية بها منذ فترة مبكرة.

هذا، وقد ذيل المؤلف كتابه بملحق يتضمن مجموعة من نصوص الوقف المثبتة على مخطوطات متوزعة في أماكن مختلفة، بلغت واحدًا وثلاثين نصًّا، وقد استند على هذه النصوص في جانب من الدراسة والتحليل.

واعتمد على مائة وثمانية بين مرجع ومصدر، تنوعت بين كتاب ودورية وبحث وأطروحة، ومن بينها مرجع بالإنجليزية.

بقي أن يعرف القارئ أن الكتاب احتل الإصدار السابع من إصدارات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض في طبعته الأولى 1408هـ - 1988م، وقع في مائتين وثمان وثلاثين صفحة.

مناقشة وتعقيب:

أولاً: في المنهج:

يجب أن أشير أولاً إلى أن أسلوب المؤلف ومنهجه "الأكاديمي" في الكتاب لا غبار عليه، وأبرز ما فيه هو التوثيق من النصوص، والإكثار من الأمثلة.. وهذا ما يضفي على الكتاب ثوب الجمال والتشويق، إضافة إلى القيمة العلمية، ولا أرى حاجة إلى ذكر الإيجابيات التي يدل عليها كل ما سبق من صفحات هذا الموضوع.

وهذه التعقيبات قد تلقي ضوءًا أكثر على بعض جوانب الكتاب.

فالكتاب من أوله إلى آخره إسلامي؛ إذ إنه يتحدث عن الكتب والمكتبات الموقوفة، ولا تكاد صفحة من الكتاب تخلو من كلمة "الوقف" أو أحد تصريفاته..

ولا شك أن الوقف الذي عدَّه المؤلف صميم النهضة العلمية والفكرية العربية والإسلامية على مدار القرون، هو ما تميزت به الشريعة الإسلامية؛ فهو جزء من نظام الإسلام الاقتصادي، وأحد الأحكام الفقهية التي لا تتعلق بالكتاب وحده، بل بكل "ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه وكان أصلاً يبقى بقاءً متصلاً؛ كالعقار، والحيوانات، والسلاح، والأثاث، وأشباه ذلك"؛ (المغني جـ 5 ص 642).

ولا يكاد الفقهاء يذكرون الكتاب من بين الموقوفات؛ لندرته بالنسبة للأشياء الأخرى.. فلنتصور أهمية الوقف أكثر وأكثر في جميع شؤون الحياة التي تخطر على بال أي متخصص، ليرى فيه - كما رأى الدكتور يحيى ساعاتي - من أنه ركن من أركان التكافل الاجتماعي والتعاون الاقتصادي والحياة الثقافية بشكل عام، ولأهمية الوقف وثوابه العظيم "لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف"، كما قال جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما؛ (المغني جـ 5 ص598).

وإذا كان الكتاب كله في الوقف - كما ذكرنا - فإن من المنهج العلمي أن يتعرض المؤلف في فصل، أو مبحث ما، لتعريف الوقف، وبيان أصل مشروعيته، وأنواعه وشروطه، وأهميته، ويعقد فقرة خاصة لبيان الأجر العظيم الذي يترتب على الوقف، من آيات قرآنية كريمة، وأحاديث نبوية شريفة.. ولن يعد هذا خروجًا على مادة الكتاب، ما دام أن أصل كل علم صحيح هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفيه ارتباط وثيق بموضوع الكتاب، وما دام الذي يشحذ همم المسلمين ويرغبهم في الخير ويدفعهم إلى الوقف هو الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، وما دام أن الدافع وراء إنشاء كل المكتبات الوقفية في التاريخ الإسلامي هو دافع الإيمان بالله، وطلب رضاه، وأن يكون ما فعله ذخرًا له يوم القيامة يوضع في ميزان حسناته.

وقد أشار المؤلف إلى هذا إشارات لم تأخذ الصفة الروحية المطلوبة، التي تدفع الإنسان للوقف.. فهو يقول مثلاً في (ص 130): ".. المكتبة العربية .. ما هي إلا نتيجة لهذا الوقف، وإفراز لأريحية أفراد أو جماعات رأت فيه سبلاً لبناء قاعدة ثقافية تكفل توفير احتياج الفرد العادي إلى الكتاب.."، ويقول في (ص 172): ".. النمط الثقافي الذي كان يقوم على الذاتية المحبة للآخرين المشبعة بروح الفضل والرغبة في إقامة مجتمع راقٍ يعم فيه العلم، وتشع أنوار الثقافة..".

ومن هنا أرى أن أول ما أوصى به المؤلف بقوله: "ضرورة العودة إلى الوقف ليكون طريقًا نحو بناء مكتبية زاهرة.. وهو ما يتطلب بث الوعي بين الأثرياء والعلماء باتخاذ هذا الأسلوب - يقصد الوقف.."، فأرى أن ما سماه بـ "بث الوعي بين الأثرياء والعلماء" لا يفهم منه إلا بث روح الإيمان والتذكير باليوم الآخر، وبيان ثواب الوقف العظيم.. حتى نصل إلى إنشاء نفوس في قوة إيمان وتقوى السلف الصالح، التي نتج عنها وعن تربيتها الإسلامية إنشاءُ مثل هذه المكتبات الوقفية العظيمة التي كادت تدرس الآن..

وإذا لم نجد تلك النفوس العامرة بالإيمان.. فلن نجد مكتبات وقفية عامرة بالكتب وطلاب العلم.

وأقول بشكل عام - في كلام لا يخص الكتاب الذي نحن بصدده -: إن أعمالنا - سواء منها الكتابية أو غير الكتابية - يجب أن يفوح منها عبق الإيمان، وريحان الروحانية، وأن تكون مغلفة بسماحة الإسلام ومبطنة بصفائه.. أن تكون حِكَمه وآدابه مبثوثة في ثنايا كل كتاب وكل عمل..، وأعرف أن هذا الكلام لا يعجب "الأكاديميين" الذين تشددوا في "الموضوعية" حتى سيطر الجفاء على أعمالهم وأعمال تلاميذهم.. ولا يعني هذا النيل من قيمتها العلمية، بل المطلوب هو ملاءمة العمل ومواءمته للنفس البشرية مهما دقت تخصصاتها.. كما أن ما أذكِّر به هو منهج إسلامي ركيزته القرآن الكريم.. اقرأ أطول آية في القرآن - آية الدَّين في آخر سورة البقرة - وكذلك آيات المواريث والفيء، التي تتحدث عن تقسيم الأموال والأنصبة في عمليات رياضية، وهي تمتلئ بالإرشادات، وتنبه إلى خشية الله في السر والعلن، وطلب الحلال من مكمنه، وتقوى الله في أمر اليتامى.. إلخ.

أفلا يعني هذا أن النفس - فطرةً - تميل إلى التغيير والتجديد في أشياء كثيرة حتى لا يعتريها الملل والكسل؟! فما المانع من أن نقف وقفة تأمل روحي - يتصل بموضوعه - عند كل ما يلزم، لنعطي النفس نصيبها من هذا الجانب الحيوي المفيد؟!

وهذا جانب تربوي مهم غفلنا عنه؛ لتقيُّدنا بمنهجية الغرب وأسلوب تعلُّمه وتعليمه.. فهو بحاجة إلى مراجعة ومناقشة.. مثل كثير من الأمور.

ثانيًا: في المكتبات:

هناك لمحات ذكية وومضات فكرية بين ثنايا الكتاب تحتاج إلى وقفات، بل إلى مناقشتها في ندوات ومؤتمرات لاستخلاص النتائج المهمة المترتبة على عمل السلف في نظرتهم إلى المكتبة، كونها مركز إشعاع فكري، ومنطلقًا لتربية الأجيال وتخريج قادة الفكر والرأي.. وقد أشار إلى قسم منها في التوصيات، وبخاصة الفقرة الأولى والثانية.

والذي استوقفني أكثر، وأخَذ بمجامع تفكيري هو ما بحث فيه المؤلِّف وأعطاه حقه من الدرس والتمحيص عن أمناء المكتبات.

فقد وجد من تتبع أسمائهم أنه كان هناك حرص من قِبل الواقف أو الناظر من بعده على إسناد وظيفة أمين المكتبة إلى شخصية علمية معروفة، وهنا فقد تولى مجموعة من المشاهير، ذكر من بينهم (ص 148 - 152): أبو صالح المؤذن الذي وصف بـ "الإمام الحافظ المسند محدث خراسان"، ومحمد بن نصر القيسراني الذي وصفه الذهبي بـ "سيد الشعراء"، وأبو عبدالله الطليطلي، وهو أحد أشهر علماء النحو في عصره، ويعقوب الإسفراييني، وكان فقيهًا أصوليًّا نحويًّا لغويًّا، له مؤلفات، والأبيوردي وهو شاعر وأديب، له مؤلفات وأخبار، والأتراري وكان فقيهًا أديبًا، وفخر الدين البغدادي، وابن الكتبي، وأبو دلف وكان إمامًا صالحًا خيِّرًا متعبدًا، له صدرة كبيرة وجلالة عجيبة، وفيه نفع للناس، وابن الساعي مؤرخ معروف، وابن الفوطي الذي قال عنه الذهبي: "العالم البارع المتفنن المحدث المفيد مؤرخ الآفاق فخر أهل العراق"، وشرف الدين الشبلي، وكان من فقهاء الحنفية، وصدر الدين ابن الأدمي، وكان قاضي القضاة بالقاهرة، والحافظ ابن حجر العسقلاني شيخ الإسلام وقاضي القضاة، وأبو عبدالله محمد المقدسي، والهيتي، والنووزي، والأماسي، والتفتازاني، وياقوت المستعصمي..

وبما أن المؤلف وجد أن الحرص متوافر لجعل المكتبة تحت نظر عالم مشهور، وهو ما حدث فعلاً، كما في الأمثلة السابقة، فإننا نشير هنا إلى أن الفائدة الكبرى تكمن في جعل المكتبة منطلقًا عمليًّا يتخرج منه المؤلفون والباحثون المتخصصون في شتى مجالات المعرفة، وذلك بالإرشاد المستمر من أمين المكتبة، وتجواله - أو مساعديه - بين طلبة العلم المترددين على المكتبة عن اختيار - أو غير اختيار - والإشراف عليهم، ومساعدتهم للوصول إلى مبتغاهم بأسهل الطرق، وتعليمهم أصول البحث العلمي.. والفائدة لا تكمن في هذا فقط، بل في توطيد الصلة بين الطالب والعالم ليستفيد من تجرِبته، ويختصر الطريق في البحث العملي من حيث انتهى إليه ذلك العالم.. وليس من بداية الطريق.. إلا ما كان لازمًا..

وقد أتوسع في هذا لأطرح فكرة "المرشد المكتبي" الذي ينبغي أن يكون هناك أكثر من مرشد في المكتبات العامة يكون على درجة ممتازة من الثقافة، بحيث يتولى مهمة التجول بين الطلبة، فيسعف من لم يسعفه الحظ.. ويعلم من لا يعرف كيفية البحث عن عناوين الكتب والببليوجرافيات الموضوعية، ورؤوس الموضوعات والدوريات المرجعية.. وقد اتضح لي من ترددي المستمر على بعض المكتبات العامة، أن كثيرًا - وربما الكثير جدًّا - من الطلاب الجامعيين لا يعرفون كيف يبحثون عن عنوان الكتاب.. والكتب المصنفة في الموضوع الذي يبحث فيه ضمن المكتبة.

ولماذا لا أقترب من الهدف أكثر إذا قلت: إن المطلوب هو عمل جدول لزيارة علماء إلى المكتبة، كباحثين زائرين يستفاد من خبرتهم ودرايتهم بالكتاب وأصول البحث، فيبقى كل منهم أسبوعًا أو أكثر، ليرشد ويعلم ويلقي المحاضرات ويستمع لمشكلات الطلبة والبحث، ويجيب على الأسئلة الواردة أو المحتملة.. إلخ.

والمهم هنا أن يقال: هل أمناء المكتبات في العصر الحاضر، وفي مكتباتنا العامة، على هذه الدرجة من العلم والمعرفة بحيث يجدون دافعًا للعلم والتعليم ليكونوا أسوة لغيرهم ومعلمين؟ أم أحدهم لا يكاد يغادر مكتبه، ولا يرى المكتبة في الأسبوع مرة.. ولا شك أنها ستكون "زيارة خاطفة"!

ولا أعتقد أن المهم هو أن يكون أمين المكتبة هو المنوط به تلك الأعمال التي ذكرتها.. بل المهم هو أن يوجد شخص أو أشخاص يقومون بها.. ولا مشاحة فيما يختار لهم من أسماء أو ألقاب تدل على مهمتهم.

وهذا ينطبق على رئيس قسم التزويد أيضًا.. فقد رأينا أن الخليفة الناصر لدين الله قد أسند هذه العملية إلى شخصية علمية بارزة، الذي وصف بأنه أوحد زمانه..

فهل تعطى لرئيس قسم التزويد هذه الأهمية الآن؟ ويكون بالمستوى العلمي المطلوب، ليقوم بأصعب عملية يغذي بها عقول العلماء والباحثين من خلال عملية اختياره للكتب؟!

وأخيرًا:

كنت أود أن يخصص المؤلف مساحة لا بأس بها من الكتاب، يوازن فيها بين الإيجابيات التي نتجت عن المكتبات الوقفية وشؤون إدارتها، وبين السلبيات التي تشكو منها مكتباتنا العامة حتى الآن، أو أن يخصص الإيجابيات التي تفردت بها تلك المكتبات ويعطي من بينها اقتراحات تفيد مكتباتنا الآن.. ومن هذه الإيجابيات التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار ما ذكرناه في التعقيب الثاني، وهو أن يكون أمناء المكتبات ورؤساء أقسام التزويد على درجة عالية من العلم والمعرفة.. وكذلك ما أوصى به المؤلف في آخر كتابه، وهو قوله:

"الاستفادة من تجربة الأسلاف التي تركزت على المواكبة بين حلقات الدرس المفتوحة وتشييد المكتبات، لترفد ثقافة الطالب بما يمكنه من التوسع والاستزادة، ومن ثم تكوين شخصية علمية متميزة للدارسين".

ولا شك أن هناك اقتراحات أخرى مفيدة بإمكان الدارس أن يخرج بها من الكتاب، لكنني كنت أفضل أن يقدمها المؤلف؛ لأنه أدرى بشعاب كتابه.. ولأسباب أخرى يعرفها من يعرف المؤلف عن قرب! والله ولي التوفيق.

(نشر في مجلة "التوباد" بالرياض (رجب - ذو الحجة 1409 هـ، مارس - أغسطس 1989 م)، المجلد الثاني، العددان الثالث والرابع، ص 197 – 203).