لا أعرف أن هناك مَن خصَّ "جريمة الانتحار" بكتاب مُستقِل يُعالِجه من ناحية إسلامية غير هذا الكتاب، الذي يَصدُر بعنوان "قمع الأشرار عن جريمة الانتحار" على الرغم من خطورة هذه الجريمة، وانتشارها في بلاد إسلامية، من بينها الجمهورية التركية، التي ضربت في ذلك رقمًا قياسيًّا في إحدى السنوات الماضية، بعد أن كانت هذه الأرقام خاصة بالدول الغربية والولايات الأمريكية.
وليس أبشع مَن أن نسمع أن هناك دولاً لم تَعُدْ تضع الانتحار في قائمة "الجرائم"، بل اعتبرته من قبيل "الحرية الشخصية"، وليس هذا ببعيد من أمثال دول تعتبر الشذوذ الجنسي مرخَّصًا به، بل يحميه القانون، ويُبارِكه البرلمان!
والخبر الذي قرأته أن إيرلندا لم تَعُد تعتبر الانتحار فيها جريمة، هذا ما نصَّ عليه مشروع القانون الذي أعدته الحكومة وأقرَّه البرلمان، وكان يُعتبر جريمة منذ عام 1936م، فكان الشخص "المُنتحِر" في حال نجاته، يُعاقَب بالسجن والغرامة[1].
وقد جاء في التقرير السنوي لمنظمة الصحة العالمية أن هناك مليون شخص يَلقَون حتْفهم سنويًّا نتيجة تعرُّضهم لعلميات القتل أو الانتحار بمحض إرادتهم.
وفي المجر تَمَّ تسجيل أكبر عدد للمنتحرين، وهو (38) شخصًا من كل ألف مواطن![2]
والانتحار مُنتشِر بين الصغار والكبار!
ويرى الدكتور "ديريك ميلر" - رئيس برنامج المراهقة في معهد الصحة العقلية التابع لمستشفى "نورثويسترن" التذكاري الأمريكي - أن الاستخفاف بحالات الاكتئاب لدى الأطفال هو أخطر ما في الأمر، فالكبار لا يتصوَّرون أن الطفل الصغير قد يُقدِم على الانتحار، لكن الواقع هو غير ذلك، وعدد حالات الانتحار بين الأطفال يَصِل إلى ثلاثة أضعاف المعدَّل الذي يتصوَّره الكبار بالنسبة لأطفالهم[3].
وبالنسبة للكبار - مثلاً - فإن عمليات الانتحار تنتشر بين اليابانيين المسنين، أو الذين تزيد أعمارهم على الخمسين عامًا؛ لأن المصانع اليابانية تتبع غالبًا سياسة تطهير أجهزتها من العمال المسنين بإحالتهم إلى التقاعد القسري؛ مما يدفع هؤلاء المساكين إلى الانتحار![4]
***
ونعود للكتاب الذي نحن بصدده، فإن مؤلفه أحد العلماء الكبار، ومن المحدِّثين المشهورين في هذا العصر، توفي سنة 1413هـ بعد أن قدَّم للمكتبة الإسلامية أكثر من مائة كتاب في موضوعات إسلامية مختلفة، إنه الشيخ الجليل عبدالله بن محمد الصديق الغماري الحسني.
وكتابه هذا ألَّفه سنة 1353هـ، وكان الدافع له على تأليفه هو ما رأى من حوادث الانتحار التي "شاعت في البلاد المصرية شيوعًا عظيمًا، بين الكهول والشبان من مختلف الطبقات، وفشا فيهم استحسان ذلك، حتى صار أكثرهم يَعُد مَن قتل نفسه شهمًا شجاعًا"!
وذكر في الهامش من المقدِّمة أن السَّنة التي ألَّف فيها هذا الكتاب كانت سنة كَثُر فيها المنتحرون بشكل فظيع، "فلم يكن يمر علينا يوم دون أن نقرأ في الجرائد أو نسمع من الناس خبر شاب انتحر لرسوبه في الامتحان، أو كهل ضاقت ذات يده، أو مريض استعصى مرضه، أو عاشق أخفق في عشقِه، أو بنت أحرقت نفسها لأن أهلها زوَّجوها ممن لا تحبه، أو امرأة لأن زوجها تزوَّج عليها، أو نحو ذلك من مختلف الأسباب".
والطبعةُ الثانية للكتاب صدَرتْ في آخر كتاب المؤلف "الأربعين الغمارية في شكر النِّعم"، الذي يبدو أن صدوره كان سنة 1360هـ، ويقع الكتاب المعروض في (40) ص.
وقد وزَّع موضوعاتِه على بابين وخاتمة.
بيَّن في الباب الأول حُكْم الانتحار، وما جاء في الوعيد في فعله.
وقد بدأه بقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29، 30]، وذكر أن هذه الآية تنهى عن قتْلِ الإنسان نفسه، كما أوَّلها عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بمسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّه، وذلك عندما تيمَّم في ليلة شديدة البرد بدل أن يَغتسِل من الجنابة، وصلى بأصحابه بالتيمم.
ثم أورد الحديثَ الذي خرَّجه البخاري وغيره: ((الذي يَخنُق نفسَه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار))، وعند البيهقي في شُعَب الإيمان زيادة: ((والذي يقتحم يقتحم في النار))، والاقتحام: أن يرمي الشخص بنفسه في الأمر من غير رويَّة، يقال: اقتحم عقبة أو حفرة؛ أي: رمى بنفسه فيها وتقحَّمها.
وللقارئ أن يتصوَّر كثرة ما يُشاهِده من هذا التهوُّر!
ثم أورد حديثَ البخاري ومسلم وغيرهما: ((مَن تردى من جبلٍ فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومَن تحسَّى سمًّا فقتل نفسه، فسُمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومَن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجَّأ بها في بطنه في نار جنهم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا))، وتفسيرُه حديثٌ آخر أورده للشيخين، هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا، عُذِّب به يوم القيامة)).
ثم أورد الحديثَ الصحيح الذي ذُكر فيه ذلك "البطل" الذي أُعجب به الصحابة أيَّما إعجاب؛ لفتْكه الشديد بالمشركين، لكن قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمَا إنه من أهل النار))، ثم تبيَّن أنه جُرِح جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، وقتل نفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ((إن الرجل ليعمل عملَ أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عملَ أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)).
وهذا شاهد قد يفيد الفقهاء فيما يَعرِض لهم من أسئلة حول المريض الذي أُيس من شفائه، حيث أورد لفظ البخاري، من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان فيمن قبلكم رجل به جُرْح، فجزع، فأخذ سكينًا، فحزَّ بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله - عز وجل -: بادرني عبدي بنفسه، حرَّمتُ عليه الجنة)).
قال المؤلف: "صريح ما تقدَّم من الأحاديث يقتضي أن الانتحار كبيرة، بل من أكبر الكبائر؛ لأن ما اشتملت عليه تلك الأحاديث من الوعيد، مثل التخليد في النار، وتحريم الجنة، ما ورد إلا في معاصٍ قليلة، عدَّها العلماء بسببه من أكبر الكبائر، فعدُّها هذا منها واضح، واقتصر جماعة من العلماء على عدِّه كبيرة كبيرة... والمعنى في ذلك ما ذكره التقيُّ ابن العيد أن نفْس الإنسان ليست مِلْكًا له؛ وإنما هي مِلْك لله تعالى؛ فلا يتصرَّف فيها إلا بما أذِن الله، ا.هـ، ولِما فيه أيضًا من الجزع والتسخط لقضاء الله، واليأس من رَوحه ورحمته؛ لأن الشخص لا يُقدِم على قتْل نفسه إلا إذا نزلت به مصيبة، فيطيش لها عقله، وينسى أن ما نزل به أمر قدَّره الله وقضاه، وأنه إن صبر فرَّج الله عنه، كما جاء بذلك القرآن والحديث، فتُظلِم عليه الدنيا حينئذٍ، ويستولي عليه الجَزعُ واليأس، فلا يجد عند ذلك مخلِّصًا إلا قتْل نفسه، يرى بذلك أنه أراحها، ولا يدري أنه بفعله قدَّمها لعذاب دائم مستمر لا يَفتُر عنه طرفة عين، إلا أن يتداركه الله بلطفه ورحمته".
ثم يُورِد إشكالاً، وهو مَن استحق عقوبة القتل، فقام هو بقتل نفسه، كزانٍ مُحصَن، أو قاتلِ نفسٍ بغير حق، فهل يجوز له أن يفعل ذلك؟
رجَّح المؤلف رأي ابن حجر الهيتمي أن قتْل المهدر لنفسه كبيرة أيضًا؛ لأن الإنسان وإن أُهدِر دمه، لا يُباح له هو إراقته، بل لو أراقه لا يكون كفارة له.
وكان موضوع الباب الثاني في حُكم الصلاة على قاتل نفسه، فقال عمر بن عبدالعزيز والأوزاعي وأبو يوسف: لا يصلي عليه الإمام ولا غيره.
وقال الإمام أحمد: لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه بقية الناس، واستدلَّ بما رواه مسلم والأربعة: "أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسَه بمشاقص له، فلم يصلِّ عليه".
وقال جماهير العلماء: يصلي عليه الإمام وغيره... وأورد آثارًا عدة في ذلك، وقال: "فهذه الآثار الصحيحة تنقُل إجماعَ العلماء من الصحابة والتابعين على أن مرتكِب الكبيرة يصلَّى عليه، ودليله من جِهة المعنى أن الصلاة على الميت شفاعة له، والعاصي أشدُّ الناس احتياجًا إليها، فكيف نمنعها عنه؟ أما حديث جابر بن سمرة - السابق - فقد أجاب عنه العلماء بأن ذلك كان للتأديب وزجْر الناس عن مِثل فعله، كما قال النووي، وأضاف: وصلَّت عليه الصحابة، وهذا كما ترَك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في أول الأمر على مَن عليه دَين؛ زجرًا لهم عن التساهل في الاستدانة ومن إهمال وفائه، وأمر أصحابه بالصلاة عليه، ومن ثَمَّ أخذ المالكية أنه ينبغي لأهل الفضل والصلاح أن يَجتنِبوا الصلاة على الفسَّاق؛ زجرًا وتأديبًا".
أما الخاتمة، فكانت في النهي عن تمنِّي الموت والدعاء به، إلا إذا خاف أن يُفتَن في دينه، وأورد في ذلك عدة أحاديث، منها ما ورد فيه الصحيحين: ((لا يَتمنَّ أحدُكم الموتَ، ولا يَدْعُ به قبل أن يأتيه؛ إما مُحسِنًا فعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يَستعتِب)).
قال المؤلف: "هذا النهي مقيَّد بما إذا لم يَخف الإنسان فتنة في دينه، كما قاله غير واحد من العلماء، فأما إذا خاف ذلك، فيجوز له حينئذٍ تمنِّي الموت والدعاء به، ففي القرآن العظيم حكاية عن مريم لما جاءها المخاض: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23]؛ لعِلمها أن الناس سيتَّهِمونها ويرتابون في أمرها إذا رأوها تحمل مولودًا من غير أن تكون ذات زوجٍ، وقد حصل منهم ذلك كما قصه الله في كتابه.
وجاء في الموطأ عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: اللهم كَبِرت سِني، وضعُفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع ولا مُفرِّط، فعمر - رضي الله عنه - بسط عُذرَه في هذا الدعاء، وهو كِبَر سِنه وضعْف قوَّته، وهما مظنَّة التفريط في حقوق الله وحقوق الناس، وذلك ما لا يرضاه عمر، ولا يَخطُر له على بال".
ثم أورد أحاديثَ، منها الدعاء الذي رواه الترمذي: ((وإذا أردت بعبادك فتنةً، فاقبضني إليك غير مفتون))، قال المؤلف مُعلِّقًا على هذا الدعاء، وهو آخر ما أورده في كتابه:
"هذا الدعاء بالموت مقيَّد بحالة الفتنة مخافة أن تُصيب الداعي في دينه، وهو أعز شيء لديه؛ فلذلك أجازه الشارع، أما إقدام الشخص على التخلص من الحياة بقتل نفسه كما يفعل كثير من الجهلة، فلا يجوز في حال من الأحوال أبدًا، بل هو كبيرة كسائر الكبائر العظيمة، ويزيد عليها بأمر آخر، وهو أن جميع المعاصي كالزنا والربا والخمر قد يَمُن الله على مرتكبها بالتوبة والإنابة، فيأتيه أجله وهو تائب مُبتعِد عنها، أما الانتحار، فإن فاعله يموت متلبِّسًا به غير تائب؛ لأنه سبب موته، وتلك ميتة سوء، نعوذ بالله منها ومن كل بليَّة".
مآخذ على الكتاب:
إذا عرفنا أنه قد مرَّ على تأليف هذا الكتاب أكثر من سبعين عامًا، أدركنا أن مؤلفه كان يومها شابًّا، في بداية اهتمامه بالتصنيف، ومع ذلك فقد غطَّى جوانب عديدة وعميقة في الموضوع، ويكفي أنه جمع المادة المطلوبة من عدة مصادر، ولم يذكر أي تصنيف أفرد لهذا الموضوع سابقًا.
مما يوجَّه من نقد إلى الكتاب:
1- أن مادة الكتاب ومنهجه وأسلوبه موجَّه فيه إلى العلماء، أو طلبة العلم الإسلاميين، وليس إلى مجتمع الشباب، أو مَن يُعتقَد أن هذه الجريمة تنتشر بينهم.
أ- فأول ما تقع عليه عين المرء في الكتاب هو سَندان طويلان يَصلان من المؤلف - وهو في القرن الرابع عشر الهجري - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان بالإمكان رواية الحديث بدون ذِكْر السند، كما فعل في أحاديث أخرى كثيرة أوردها.
ب- كثرة الروايات والتخريجات.. والآراء، وكان بالإمكان الاقتصار على ما هو راجح.
2- كثرة الحواشي التي لا علاقة لها بالموضوع.
أ- منها الرد الطويل على المعتزلة في دعواهم أن مرتكِب الكبيرة يُخلَّد في النار، فكتب في الهامش هذا الرد من ص72 إلى 78.
ب- كما خصَّص حاشية طويلة لمعنى القضاء والقدر والفرق بينهما من ص 81 إلى 86.
ج- وتحدَّث عن أشراط الساعة في هامش آخر طويل من ص93 إلى 99، وهي آخر الكتاب!
3- لم يتطرَّق المؤلفُ إلى عقوبة مَن حاوَل الانتحار فنجا منه، في الفقه الإسلامي، وهو مهم جدًّا.
4- أوصي العلماءَ والباحثين بالاهتمام بهذه الجريمة التي تُعد من الكبائر العظيمة، للكتابة فيها من جديد بأسلوب ملائم، ويمكن الاستفادة من هذا الكتاب[5].
[1] رأي الشعب (جريدة أسبوعية تَصدُر في مصر) ع 176 (19/3/1414هـ).
[2] المصدر السابق ع 187 (8/6/1414هـ).
[3] الأسبوع العربي ع 1261 (12/12/1983م).
[4] مجلة الفيصل (23/7/1404هـ) ص37.
[5] أصله مقال لم يُنشر، كتبته قبل عام 1415 هـ تقريبًا. رأيته في كتابي (كتب هادفة إسلامية نافعة).