صراحة الرسول صلى الله عليه وسلم

مقدمة

في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حوادث وعبر كثيرة، فهي مدرسة تربوية يستلهم منها المسلمون في كلِّ عصر الأحكام والإرشادات التي تناسبهم، وكنت أتمنى أن تكون هناك دراسة موضوعية للسيرة النبوية كلها، وأعني (السيرة النبوية الموضوعية) كما هو (التفسير الموضوعي للقرآن الكريم)، ويكون فيها ترتيب الوقائع والأحداث وما صاحبها من أخبار حسب موضوعاتها وليس زمنياً، مثل موضوع الجهاد، والصلاة، والآداب، والعقائد، والمعاملات، ومسائل أخرى. والتعليق عليها والاستفادة منها يكون من قبيل (فقه السيرة).

وقد جاء هذا الاقتراح (المهم) عرَضًا في هذا الموضوع الذي أكتبه، وقد لاحظت في جوانب من السيرة العطرة مواقف كان تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها برداً وسلاماً على المجتمع، في مكة والمدينة، وكان بيانهُ لأمورٍ (حسّاسةٍ) تعتلجُ في الصدور إزالةً لإحَن، ولو لم يعالجها بذلك الأسلوب وتلك الصراحة لأدى ذلك إلى انشقاقات وتصرفات غير محمودة في المجتمع الإسلامي. وكثير من الدعاة والقادة والمسؤولين يتغاضون عن معالجة أمثالها من الحوادث، أو أنهم يعالجونها (بغير صراحة)، ربما حفاظاً على الصف المسلم وحساسية بعض فئات المجتمع منها، ولكن بيانها ومعالجتها بحكمة، وبالأسلوب النبوي الكريم، يفرِّغ شحنات متراكمة في النفس، ويزيل عنها نظرات خاطئة وتشنجات في غير محلها، فكان بيانها أفضل.

 

مع الأنصار

  • من ذلك صراحته صلى الله عليه وسلم في موقف من سيرته النبيلة مع الأنصار، حين وجدوا عليه في أنفسهم بعد فتح حُنين، حيث قسم عليه الصلاة والسلام الفيء في المؤلفة قلوبهم وأعطى العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يجعل للأنصار منها شيئًا، حتى جاء سعد بن عبادة رضي الله عنه وذكر له ما يدور بينهم من حديث حول ذلك، ووجد سعدًا نفسه مثلهم، ويقول: ما أنا إلا امرؤ من قومي!

فطلب عليه الصلاة والسلام أن يجمعهم، فجمعهم وخطب فيهم قائلاً: "يا معشرَ الأنصار، ألمْ آتكمْ ضُلاّلاً فهداكمُ الله عزَّ وجلَّ بي؟ ألم آتكمْ متفرِّقينَ فجمعكمُ الله بي؟ ألم آتكمْ أعداءً فألَّفَ الله بين قلوبكم بي

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: "أفلا تقولون: جئتنا خائفًا فآمنَّاك، وطريدًا فآويناك، ومخذولاً فنصرناك

قالوا: بل لله تبارك وتعالى المنُّ به علينا ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

ويأتي الحديث بروايات متعددة، وبطول وقصر، وأصله في الصحيحين، ولفظه من مسند أحمد (12040) وصححه الشيخ شعيب على شرط مسلم.

والشاهد في حديثه وبلاغته الصريحة عليه الصلاة والسلام أنه لم يقتصر على ذكر فضله عليهم، بل ذكر فضلهم عليه أيضًا، وعدَّد وجوه هذا الفضل، كما عدَّد وجوه فضائله عليهم. وهذا كله يسلُّ سخيمة الغضب والحقد من نفوسهم، حتى لا يبقى فيها شيء، بل قالوا مطمئنين مستحيين: المنُّ به علينا ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا ينبغي أن يكون القائد والمسؤول والداعية، أن يذكروا الحقَّ مما عندهم وعند غيرهم.

 

الغَيرة على محارم الله

  • وكلُّ ما ورد من غيرته صلى الله عليه وسلم على الدين فيها صراحة وافية، وقد وصفته أمُّنا عائشة رضي الله عنها بقولها: ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من ظلامةٍ ظُلِمَها إلا أن يُنتهَكَ من محارمِ الله شيء، فإذا انتُهِكَ من محارمِ الله شيءٌ كان أشدَّهم في ذلك. (رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد صحيح كما أفاده محققه "4452").

من ذلك ما كان من شأن المرأة المخزومية التي سرقت، وعرف قومها أن يدها ستُقطع، فهرعوا إلى حِبِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد يستشفعونه، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك، فتلوَّن وجهه عليه الصلاة والسلام وقال له: "أتكلِّمُني في حدٍّ من حدودِ الله"؟ فعرف أسامة أنه أخطأ، فقال: استغفرْ لي يا رسولَ الله.

فلمّا كان العشيُّ قامَ رسولُ الله خطيبًا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فإنما أهلكَ الناسَ قبلَكم: أنهم كانوا إذا سرقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرقَ فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها". ثم أمرَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بتلك المرأةِ فقُطعت يدُها، فحسنتْ توبتُها بعد ذلك وتزوجت. قالت عائشةُ: فكانت تأتي بعد ذلك، فأرفع حاجتها إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. (الحديث في صحيح البخاري 4053 وغيره)

 

الوفاء لصاحبه صلى الله عليه وسلم 

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعظم وأنجب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحبَّهم إليه، وكان عليه الصلاة والسلام يصرِّح بهذا أمام الآخرين، كما يصرِّحُ بحبِّه لابنته. وها هو ذا عمرو بن العاص يأتيه ويسأله عن أحبِّ الناسِ إليه (رجاء أن يكون من أوائل من يذكرهم) فيقول عليه الصلاة والسلام: "عائشة". قال عمرو: من الرجال؟ قال: "أبوها" (صحيح البخاري 4100).

وكان وفيًا له، لا يقبلُ كلامًا فيه، وقد حدث بين أبي بكر وعمر خلاف، فندم أبو بكر، وطلب من عمر المغفرةَ فأبى، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهُ بما جرى، فجعل وجهُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يتمعَّرُ، حتى أشفقَ أبو بكرٍ، فجثا عمرُ على ركبتَيه فقال: يا رسولَ الله، واللهِ أنا كنتُ أظلَمَ، مرتين، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ بعثَني إليكم فقلتُم كذبْتَ، وقال أبو بكرٍ صدَق. وواساني بنفسهِ وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي"؟  مرتين، فما أوذيَ بعدها. (صحيح البخاري 3461).

 

الحكمة والسياسة

وكان المنافقون عقبةً كبيرةً أمام الدعوة، ويفعلون الأفاعيل لهدم الدين من الداخل، وتفكيك مجتمع المسلمين، وإضعاف قوتهم، ومع ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بحكمته وسياسته تجنَّبَ الصدامَ بهم، وحافظ على أمن المدينة وأهلها، وتجاوز هذه العقبة بالصبر والحِلم والكلمة الحسنى، وقابل مكرهم بالأناة والمعاملة الطيبة، حتى إنه كان يستغفر لهم، إلى أن نُهيَ عنه.

ولكن بعض الصحابة ما كان يتحمَّل هذا الموقف، وخاصة لمـّا أعلن كبير المنافقين عبدالله بن أبي بن سلول أن الأعزَّ سيُخرجُ الأذلَّ من المدينة، ويعني بالأذلين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، عند ذلك قال عمر الفاروق رضي الله عنه: دعني أضربْ عنقَ هذا المنافق. فقال عليه الصلاة والسلام: "دعه، لا يتحدَّثُ الناسُ أن محمدًا يقتلُ أصحابه". رواه الشيخان واللفظ لمسلم (2584).

والقيادات المسؤولة تعلم هذا جيدًا، وخاصة المحلية منها، فهي مطلعة على مكونات المجتمع وفئاته المختلفة، وتعلم أن الفتنة إذا أوقدت في الداخل صعب إطفاؤها، ولا تعود النفوس إلى طبيعتها إلى بعد عقود من الزمن، فالحلُّ يكمن في السياسة والحلم والسلم، والقتل لا يكون إلا بعد نفاد جهود في الصلح، ولا يكون إلا باستحقاق.

 

لا تردُّد بعد العزيمة

شاور رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يومَ أُحُد في المقام والخروج، فرأوا له الخروج، فلمـّا لبسَ لأمتَهُ وعزمَ قالوا: أقم، فلم يمِلْ إليهم بعد العزم، وقال: "لا ينبغي لنبيٍّ يلبسُ لأمتَهُ فيضعَها حتى يحكمَ الله" رواه البخاري (28).

فالتردد نزاع يؤدي إلى التفرق والتشتت والضعف، وبعد التشاور والاتفاق تأتي العزيمة ثم التنفيذ، أما الرجوع عن ذلك بعد الإجماع أو قول الأكثرية فلا يكون مقبولاً، بل تفتيتًا للعزيمة وتضييعًا لجمع الكلمة.

 وهذا درسٌ آخر لأصحاب القيادة والمراس، بأن يكونوا أصحاب عزيمة، لا تؤثر فيهم كلماتٌ خارج دائرة الإجماع أو الاجتماع.

 

الاعتراف بتفرُّق الأمة

وهذا أمرٌ آخر يخصُّ تفرُّق الأمة، وما سبق يخصُّ القرار القيادي.

وأمة محمد صلى الله عليه وسلم مثلُ غيرها من الأمم السابقة، يصيبها الوهن والضعف والتفرق والتشرذم كما أصابهم، لبعدهم عن دينهم كما ابتعدوا {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة الحديد: 16].

ولا يخفى على الدعاة حال المعتنقين لدين الإسلام والمقبلين عليه بحرارة وحبّ وشوق، ثم إن بعضهم يصطدم نفسيًا عندما يضطلع على خلافات كثيرة بين أهل هذا الدين، عند الدعاة أنفسهم، وعند المفكرين، والفقهاء، وأئمة المساجد، والكتّاب والمؤلفين..

لكن يمكن أن يُصارَحوا بالحقيقة كاملاً، ويُقال لهم إن هناك منبعين صافيين موثوقين كل الثقة، يمكن الاعتماد عليهما كاملاً في الدين، وهما كتابُ الله تعالى، الذي لم يبدَّل ولم يحرَّف، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة.. ويقال إن نبيَّ هذه الأمة ذكر أن الخلاف سيصيب أمته، وأن الذي يبغي التزام الصراط المستقيم والنجاة لنفسه فليلتزم الجماعة، وهو ما رواه ابن ماجه في سننه (3992) وصححه في صححيح الجامع الصغير (1082) ولفظه: "افترقتِ اليهودُ على إحدى وسبعينَ فرقةً، فواحدةٌ في الجنة، وسبعونَ في النار. وافترقتِ النصارى على ثنتينِ وسبعينَ فرقةً، فإحدَى وسبعونَ في النار، وواحدةٌ في الجنة. والذي نفسُ محمدٍ بيده، لتفترقنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعينَ فرقة، واحدةٌ في الجنة، وثنتانِ وسبعونَ في النار". قيل: يا رسولَ الله من هم؟ قال: "الجماعة". 

 

كأنه شيطان!

الإسلام يحثُّ على النظافة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان نظيفًا أنيقًا، ويحثُّ على النظافة كذلك. ولكن ماذا لو ظهر واحد من المسلمين منفوش الشعر مغبرًا وكأنه خارج من قبر؟

لقد ورد في حديث مرسل رواه الإمام مالك في الموطَّأ (1702) وغيره، عن عطاء بن يسار قوله: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فدخلَ رجلٌ ثائرُ الرأسِ واللحية، فأشارَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده أن اخرج، كأنه يعني إصلاحَ شعرِ رأسهِ ولحيته، ففعلَ الرجل، ثم رجع، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أليسَ هذا خيرًا من أن يأتيَ أحدُكم ثائرَ الرأسِ كأنهُ شيطان

وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مربيًا، يعلم أمتهُ ما يصلحهم في أمر دنياهم وآخرتهم.

 

انتبه عندما تأكل

قال أبو جحيفة رضي الله عنه: أكلتُ لحمًا كثيرً وثريدًا، ثم جئتُ فقعدتُ حيالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجعلتُ أتجشَّأ، فقال: "أقصِرْ من جُشائك، فإن أكثرَ الناسِ شِبَعًا في الدنيا أكثرُهم جوعًا في الآخرة". رواه الحاكم في المستدرك (7864) وحسَّنه في صحيح الجامع (1179).

وهذا درس لنا جميعًا، بأن ننتبه عندما نأكل، ونبتعد عن الطمع والجشع والشرَه، حتى لا يشتدَّ حرصنا على الأكل ويجتمع همنا عليه، فإن وراء الشبع حسابًا!

وما أجمل كلام الإمام البصري هنا: كانت بليَّةُ أبيكم آدم أكلة، وهي بليَّتكم إلى يوم القيامة!

وقبله قالت أمُّنا عائشة رضي الله عنها: إن القومَ لمـّا شبعتْ بطونُهم، جمحتْ بهم نفوسُهم إلى هذه الدنيا.

كانت تلك وقفات من السنة والسيرة، مما بدا فيها صراحة واضحة، في مواقف ونصائح وأحاديث، لا تحتاج إلى فلسفة وشرح طويل، وقد جاءت مما علق منها بالذاكرة، ولو تتبعتها في كتب السنة والسيرة لجاء في حلقات أو كتاب. والحمد لله وحده.