مقارنة على استحياء

المسلمون يذكرون من قبلهم بخير، بل بحبّ وإعجاب، ويقولون عنهم (السلف الصالح)، وهذا من أدب الإسلام في ذكر الأموات، واستجابة لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: "اذكروا محاسنَ موتاكم"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا ماتَ صاحبكم فدَعوه، لا تقَعوا فيه" الذي رواه أبو داود وصححه في صحيح الجامع. وأثنى الله في كتابه الكريم على من دعا بقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحشر: 10].

ولا يعني هذا أبداً التغاضي عن أخطائهم، فتقديس الأشخاص شيء، وذكرهم بخير شيء آخر، ولا عصمة في الإسلام إلا لكتاب الله ورسوله.

وهكذا أئمة الإسلام وخلفاؤه من الصالحين الذين حكموا البلاد وخدموا العباد بإخلاص، كانوا هم أيضاً يذكرون من قبلهم من الخلفاء والأمراء بخير، وفاء لهم، واعترافاً بفضلهم، وأكثرهم في هذا أدباً ومحبة هم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم، وخاصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكان يذكر سلفه أبا بكر الصديق بخير وإعجاب شديد، على الملأ، وبين الأصحاب، حباً له، وتعليماً للمسلمين بالوفاء، وترسيخاً لمبدأ إسلامي، وهو أن يُنسب الفضل لأهله، وأن تُذكر الفضائل الإسلامية وتنشر، وبيانًا للأجر العظيم لمن سنَّ سنة حسنة، وإشادة بشيوخ الإسلام وقادته العظام، الذين ثبتوا على هذا الدين، ونشروه، وأنفقوا أموالهم في سبيله، وقدَّموا أرواحهم فداء له.

وكان أبو بكر الصاحب الأول لرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، وأول من أسلم، وأنفق كلَّ أمواله في سبيل الإسلام، وأول خليفة للمسلمين، مخلصًا، ذا عزيمة ورأي راجح في الإسلام، وكان عمر يجلُّه لأجل ذلك، ويعرف تاريخ جهاده في هذا الدين، فما قدَّم نفسه عليه مرة واحدة ليرفع من شأن خلافته وطول مدَّته في خدمة المسلمين والعدالة بينهم، بل كان يقول بكل تواضع (كما وردت الأخبار في تاريخ الخلفاء للسوطي): أبو بكر سيِّدنا.

ويقول معجبًا بقوة إيمانه: لو وُزنَ إيمانُ أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم!

ومن أجمل أقواله فيه: لوددتُ أني شعرةٌ في صدر أبي بكر!

وبلغ من حبِّه له وثقته به أن قال: وددتُ أني من الجنةِ حيث أرى أبا بكر!

وورد في كتب الأدب أنه سمع منشداً يُنشد:

 

ما ساسنا مثلك يا ابن الخطابْ    

 

أبرَّ بالأقصى وبالأصحابْ

 

بعد النبي صاحب الكتابْ

 

فنخسهُ عمر وقال: أين أبو بكر ويلك؟!

نعم.. هكذا كان الوفاء.. وهكذا يكون الأدب!

ويقول فيه الخليفة الرابع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خيرٍ قطُّ إلا سبقَنا إليه أبو بكر!

وقال معترفًا ومشيدًا بالخليفتين الأولين: خيرُ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر.

أما عمر، ففضائله كثيرة، ونحن ننقل ما قال الخلفاء المتأخرون عمن قبلهم، وقد قيل لأبي بكر في مرضه: ماذا تقول لربك وقد وليت عمر؟ قال: أقول له: وليتُ عليهم خيرهم.

وقال قبل ذلك: ما على ظهر الأرض رجل أحبُّ إليَّ من عمر.

وقول عليّ رضي الله عنه: إذا ذُكرَ الصالحون فحيهلا بعمر.

وباعتراف جميل من الخليفة معاوية ورد قوله: أما أبو بكر فلم يُردِ الدنيا ولم تُرده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يُرِدها، وأما نحن فتمرَّغنا فيها ظهرًا لبطن!

أما من كان حكمه مُلكاً في الإسلام أو غصبًا، فمن الطبيعي ألاّ يقول مقولة أبي بكر وعمر وعليّ، إلا من هداه الله فقال بمقولتهم، وسلك نهجهم، مثل الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله..

فإذا كان عمر بن عبدالعزيز أُقعد عندما أخبر بالخلافة لشعوره بثقل المسؤولية عليه، فإن المؤرخين يذكرون عن عبدالملك بن مروان أنه قال لمـّا أفضى الأمرُ إليه، والمصحف في حجره، أطبقه وقال: هذا آخر العهد بك!

ويعني الانشغال به، فقد كان طالب علم مجتهدًا، عالمـًا بالحديث والأدب.

وممن يُذكرون منهم بخير سليمان بن عبدالملك، الذي قال فيه ابن سيرين رحمه الله: يرحم الله سليمان، افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لمواقيتها، واختتمها باستخلافه عمر بن عبدالعزيز. وقد مات غازيًا بدابق.

لقد نظر هذا الخليفة في المرآة، فأعجبه شبابه وجماله، فقال: كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وكان أبو بكر صدِّيقًا، وكان عمر فاروقًا، وكان عثمان حييًّا، وكان معاوية حليمًا، وكان يزيد صبورًا، وكان عبدالملك سائسًا (سياسيًّا)، وكان الوليد جبّارًا، وأنا الملك الشابّ!

ولكن ما دار عليه الشهر حتى مات!

ولو نظرنا إلى الطامَّة التي أصيب بها المسلمون في هذا العصر، وما نُكبوا به في رؤساء اغتصبوا الحكم من الشعب ومن الرؤساء السابقين، لعرفنا كيف يذكرونهم!

إنهم يذكرون مثالبهم ونقائصهم وقبائحهم كلَّها، وزيادة عليها، ولا يدعون شيئاً منكراً وقبيحاً إلا ألصقوه بهم، ويُخرجون أوراقهم القديمة، ويكشفون علاقاتهم المشبوهة، والأموال التي نهبوها، والفواحش التي ارتكبوها، والسجون التي ملؤوها.. الخ. وقد يكون أكثر ما يقولون في ذلك حقاً، ولكنهم بالتأكيد أسوأ منهم، وأكثر بشاعة في القتل والنهب.. وكلٌّ يذكر الآخر بمثالبه وهو أسوأ منه، لأنهم لا يخدمون ديناً واحداً فيه رفعتهم جميعاً، بل يخدمون مناصبهم وشهواتهم، ولا يحبون أن يتقدمهم في هذا أحد! والله المسؤول أن يخلِّصنا من هؤلاء وهؤلاء جميعًا!