أبو أمامة الباهلي

أبو أمامة الباهلي

(21 ق.هـ، 641م - 86هـ، 705م)

صُدَيُّ بن عَجْلان بن وهب الباهلي، أبو أُمامة، من قيس عَيْلان، جعله بعضهم من بني سهم بن عمرو، وخالفه غيرهم، ولم يختلفوا في أنه من باهلة، وذُكر في اسم والده غير ذلك، لكن الراجح ما أُثبت بكنيته، وكان من أشراف قومه.

ولادته سنة (21 ق.هـ) على الصحيح، فقد تحدث لجماعة عن "حجة الوداع"، فسُئل عن عمره يوم ذاك، فذكر أنه كان ابن ثلاثين سنة، وقد رواه البخاري في "التاريخ الكبير"، وسنده حسن أو صحيح.

صحِب النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع منه، وروى عنه، وحدَّث عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وغيرهم، رضي الله عنهم.

وروى عنه خالد بن معدان، وسالم بن أبي الجعد، ورجاء بن حَيْوة، وشهر بن حَوْشب، ومحمد بن زياد الألهاني، وآخرون، رحمهم الله.

روى له الجماعة، وله في الصحيحين (250) حديثًا، وأحاديث وأخبار وأقوال في مصادر أخرى عديدة، فكان من المكثرين من الرواية، وأكثرُ حديثه عن الشاميين.

عاش عصر النبوة، وعصر الخلافة الراشدة، وجزءًا كبيرًا من عصر بني أمية، حتى خامس خلفائهم، ورُوِي أنه كان ممن بايع النبيَّ صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وهي المسماة ببيعة الرضوان، وكانوا (1400) صحابي، شارك في غزوات عديدة، ويأتي ما يفيد أنه كان محاربًا محنكًا، وقد أورد أبو نُعَيم في "الحلية" ما يستنتج منه أنه حضر بدرًا، وأخرج الطبراني ما يدلُّ على أنه شهد أُحُدًا، لكن بسند ضعيف، وله مع رسول الله أخبارٌ طيِّبة، وكان موضع ثقتِه - عليه الصلاة والسلام؛ فهو أحد رجالات الدعوة المتمكنين في صدر الإسلام، وقد ورَد بإسناد حسن رواه الطبرانيُّ أن الرسولَ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قومه لدعوتِهم إلى الإسلام، ونهيهم عن أكل الميتة وما إليها، فذهب إليهم ودعاهم إلى ذلك، فكذَّبوه وردُّوه، وكان جائعًا ظمآن، فما أطعموه ولا سقَوْه، فنام ورأى أنه أُتي بشربة لبن فشرب وشبع، ثم قالوا: أتاكم رجل من أشرافكم وسراتكم فرددتموه، اذهبوا إليه وأطعِموه، فذكَر لهم أنه أُطعِم وسُقِيَ في المنام فهو شبعان ريان، ولم يطعَمْ لهم شيئًا ولم يشرَبْ، ورأوا من حاله ما يُصدِّقُ ذلك، فأسلَموا عن آخرهم!

ومِن أخبارِه مع الرسول صلى الله عليه وسلم ما رواه أحمدُ بإسناد صحيح وآخَرون أنه أراد غزوةً فقال: يا رسول الله، ادعُ لي بالشهادة، فقال: ((اللهم سلِّمْهم وغنِّمْهم))، قال: فغزونا، فسلِمْنا، وغنِمْنا، وقلت: يا رسول الله، مُرْني بعمل، قال: ((عليك بالصومِ؛ فإنه لا مِثْلَ له))، فكان أبو أمامةَ وامرأتُه وخادمُه لا يُلفَوْن إلا صيامًا.

ثم إنه طلَب من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرَه بأمر آخرَ عسى الله أن ينفَعَه به، فقال له: ((اعلَمْ أنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفَع اللهُ لك بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئة))؛ (صحيح الجامع الصغير رقم 1069).

ومن خلال صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عدَّدَ مِن صفاته جانبًا جميلاً، فذكر أنه "كان من أضحكِ الناس سنًّا وأطيبه نفسًا"؛ (رواه ابن أبي الدنيا في "مداراة الناس" رقم 153، والطبراني في المعجم الكبير رقم 7838، وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف، ولعله يتقوَّى بطريق أخرى للحديث ورد في المصدر الأول منه).

وله أخبار أخرى يفهم منها أنه كان مطَّلعًا على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، خبيرًا بالمجتمع المدني؛ فهو يسأل ويروي ويشارك في مناحي الحياة المختلفة.

شهد فتح مصر وسكنها، ثم انتقل إلى الشام ونزل حمص، روى عِلمًا كثيرًا، غزا وتعبَّد ودعا بعزيمة وإيمان وصبر، وكان يحُثُّ على وحدة الصف، ويحذِّر من الفُرقة، ويقول عن الأزارقة: "إنهم شرُّ قتلى"، وقد ذُكر أنه كان مع عليٍّ في "صِفِّين"، وأورد محمد بن سعد قوله: "شهدت صِفِّين فكانوا لا يجهزون على جريح، ولا يطلبون مولِّيًا، ولا يسلبون قتيلاً"، ولا يعني هذا بالضرورة أنه شارك في الحرب، ولعل كونه مع علي في صِفِّين في أول الأمر قبل بدء الحرب؛ فقد نقل ابنُ كثير في "البداية والنهاية" أن أبا الدرداء وأبا أمامة لم يشهَدا قتالاً، بل لزِما بيوتهما، وذلك بعد أن سمعا مقالتَيْ معاوية وعلي بنفسيهما، في محاورة جرت بينهم، بل ذكر من قبل أنه كان المحرِّضين على المطالبة بدمِ عثمان.

وكان فارسًا شجاعًا عارفًا بالخطط الحربية مع مكرٍ ودهاء، حائزًا على ثقة مسؤوليه، يُستعمل في المواقف الصعبة، فكان طليعةَ الجيش الذي فتح دمشق، وقد اختاره أبو عبيدة بن الجراح وبعثه بين يديه، وحكى كيف أنه عندما فُتح باب المدينة فجرًا قتل البواب وعاد، في خدعة لطيفة وتوزيع أدوارٍ مع صاحبين له.

وفي السنة الثالثة عشرة أمَّر أبو بكرٍ يزيدَ بنَ أبي سفيان على جيش عظيم، ووجَّهه إلى الشام من ضمن مَن وجههم إلى هناك، وعندما اجتمع للروم جمعٌ بـ "العربة" من أرض فلسطين وجَّه إليهم يزيدُ أبا أمامة، فهزَمهم وغنِم منهم، وقتل منهم بِطريقًا عظيمًا، فكان ذلك أولَ قتال بالشام بعد سرية أسامة بن زيد، ثم أتوا المدائن (قرب غزة) فهزمهم أيضًا، ثم "مرج الصفر" التي استُشهِد فيها جماعة من المسلمين وتمكَّن هو من الانسحاب.

وكان يتردد على الخلفاء والولاة، ويشارك في الحياة السياسية ناصحًا وموجِّهًا، وفي الحياة العِلمية والاجتماعية كذلك، وقد مر أنه حاوَر عليًّا ومعاوية في أمرهما، وأخرج البخاري في تاريخه الكبير قول حُميد بين ربيعة: إنه رأى أبا أُمامة خارجًا من عند الوليد بن عبدالملك في ولايته سنة ست وثمانين، كما أنه عاد خالدَ بن يزيد بن معاوية وهو أميرُ حِمص فألقى إليه متَّكأ من حرير، فتنحَّى عنه ونصحه، وفي آخر حياته مرض واستأذن الوالي أن يخرج من مدينة حمص إلى قرية قريبة منها.

وكان عالِمًا مصلحًا، يُحدِّث ويعلم ويبلِّغ ما شاء، ويقول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم القرآن وحثنا عليه"، وصار له تلامذةٌ يقصِدونه من الآفاق، قال سليم بن عامر: "كنا نجلِسُ إلى أبي أمامة فيحدثنا حديثًا كثيرًا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول: اعقِلوا وبلِّغوا عنا ما تسمعون"، وذكر سليمان بن حبيب أنه قال لهم: "إن هذه المجالسَ من بلاغ الله إياكم، وإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ ما أرسل به إلينا، فبلِّغوا عنا أحسنَ ما تسمعون"، وكان حريصًا على الدعوة والتبليغ، يحدِّث كالرجل الذي عليه أن يؤدِّي ما سمع، دخل جماعة عليه في مسجد حمص فقال لهم: "إن دخولَكم عليَّ رحمةٌ لكم، وحجَّةٌ عليكم، ولم أرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من شيء أشدَّ خوفًا على هذه الأمَّة من الكذب والعصبيَّة، ألا وإياكم والكذبَ والعصبية، ألا وإنه أمرنا أن نبلِّغَكم ذلك عنه، ألا وقد فعَلْنا فأبلِغوا عنا ما بلَّغناكم".

وكان حكيمًا مجتمعَ العقل، رأى في سيوف بعض المجاهدين حُلِيًّا فقال: "أما واللهِ لقد فُتِحت الفتوحُ بسيوف ما حِلْيتُها الذهبُ والفضة، ولكن حِليتُها العَلابِيُّ والآنُكُ والحديدُ"؛ (أي العَصَب والرَّصاص).

وله وعظٌ وتذكير في المناسبات، كما روى خطبةً له الحاكمُ في "المستدرك" (2/400) وصححه.

وذكرت مولاةٌ له أنه كان رجلاً يحب الصدقةَ، ويجمع ما بين الدينار والدرهم والفلوس...، ولا يقفُ به سائلٌ إلا أعطاه ما تهيأ له، وكان لا يمرُّ بأحدٍ إلا سلَّم عليه، صغيرًا أو كبيرًا، ويقول: "أمَرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نفشيَ السلام".

ومن أقواله رضي الله عنه: "حبِّبوا اللهَ إلى الناس يُحبِبْكم الله"، "المؤمن في الدنيا بين أربعة: بين مؤمن يحسُدُه، ومنافقٍ يُبغِضُه، وكافر يُقاتِله، وشيطانٍ قد يوكل به"، "كان الناس كشجرةٍ ذاتِ جَنًى، ويوشك أن يعُودوا كشجرةٍ ذاتِ أشواك".

وقد مات بقرية "دنوة" القريبة من حمص، وكان قد أصابه سلسل في البول، فاستأذن الواليَ ليكون هناك، وفي سنة وفاته اختلاف، أكثرها قيلاً هي (81) و(86) هـ، ولعل الأكثر على الأخير، حتى قال ابن البرقي: إنه بغير خلاف! وقد روى البخاريُّ في تاريخه - كما مر - أنه رُئيَ خارجًا من عند الوليد بن عبدالملك في ولايته سنة (86هـ)، ورواةُ سندِه معدَّلون جميعًا، وقد مات والده الخليفة عبدالملك بن مروان في منتصف شوال، فتسلم هو الخلافة من بعده في السنة نفسها، وتكون وفاة أبي أمامة في أواخر السنة المذكورة، ويكون قد عُمِّر (106) سنوات، وذُكر أنه آخرُ مَن مات بالشام من الصحابة، لكن الصحيح أن عبدالله بن بُسر مات بعده، في السنة نفسها أو بعدها.


المراجع:

- الاستيعاب في معرفة الأصحاب/ يوسف بن عبدالله بن عبدالبر القرطبي؛ تحقيق علي محمد البجاوي. - بيروت دار الجيل، 1412هـ، 4/1602.

- أُسْد الغابة في معرفة الصحابة/ عز الدين علي بن محمد بن الأثير الجزري؛ تحقيق خليل مأمون شيحا. - بيروت: دار المعرفة، 1418هـ، 2/446، 4/375.  

- الإصابة في تمييز الصحابة/ ابن حجر العسقلاني؛ تحقيق علي محمد البجاوي. - بيروت: دار الجيل، 1412هـ، 3/420.

- البداية والنهاية/ إسماعيل بن كثير؛ تحقيق عبدالله بن عبدالمحسن التركي. - القاهرة: هجر للطباعة والنشر، 1417 - 1420هـ، 9/544، 570، 10/425، 508، 12/376، 410، 20/86.

- التاريخ الكبير/ محمد بن إسماعيل البخاري. - بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت، 2/2/326 رقم (3001).

- تهذيب الكمال في أسماء الرجال/ أبو الحجاج يوسف بن عبدالرحمن المزي؛ حققه وضبط نصه وعلق عليه بشار عواد معروف. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1413هـ، 13/158.

- حلية الأولياء/ أبو نعيم الأصبهاني. - بيروت: دار الكتب العلمية، د.ت، 5/107، 175، 9/37.

- سير أعلام النبلاء/ شمس الدين الذهبي؛ تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين. - بيروت: مؤسسة الرسالة، 1401 - 1409هـ، 3/359.

- صفة الصفوة/ عبدالرحمن الجوزي؛ حققه وعلق عليه محمود فاخوري، خرج أحاديثه محمد رواس قلعجي. - ط 3، مصححة ومنقحة ومزيدة. - حلب: دار الوعي، 1405هـ، 1/733.

- الطبقات الكبرى/ محمد بن سعد. - بيروت: دار صادر: دار الفكر، د.ت، /411.

- الكامل في التاريخ/ عز الدين علي بن محمد بن الأثير الجزري؛ عني بمراجعة أصوله والتعليق عليه نخبة من العلماء. ط4، تميزت بفهارس شاملة. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1403هـ، 2/277.

- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد/ نور الدين الهيثمي؛ بتحرير العراقي وابن حجر. - بيروت: دار الكتاب العربي، 1387هـ، 9/386. 

- مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر/ محمد بن مكرم بن منظور؛ تحقيق عدة باحثين. - دمشق: دار الفكر، 1404 - 1408هـ، 11/76.

 

(كتبت الترجمة بطلب من "موسوعة أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين" الصادرة عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتونس، نحو عام 1426هـ)