أعلام غيروا آراءهم

هذا العنوان وضعته ليُختارَ بحثاً علمياً أو رسالة جامعية تُقدَّم في كليات العلوم الاجتماعية أو غيرها، فهناك كثير من الأعلام غيَّروا آراءهم، في السياسة والدين والأدب وحتى النظريات العلمية. وإذا أعلن كاتب ما تبرُّؤه مما كتب، فإنه لا يجوز نقلُ ما سبق عنه أنه قائله، إلا للمقارنة والتنبيه. ولا شكَّ أن في تتبُّعِ هذه الآراء وأسباب تغيِّرها فائدة وتوثيقاً علمياً.

    وفي تاريخنا الإسلامي شخصيات كثيرة غيَّروا آراءهم، وقد كُتب عنهم ما كانوا عليه ثم ما استقرَّوا عليه، وأُشيرَ إلى هذا في تراجمهم، وذُكرت أمثلةٌ من ذلك في سيرهم، ليكون القارئ على بيِّنة من ذلك، وأذكر من هذا الإمام الشافعي رحمه الله، الذي انتهى إلى المذهب الجديد، بعد القديم منه. وفقهاء كثيرون كانوا على مذاهب فتركوها إلى غيرها، وأبو الحسن الأشعري رحمه الله التزم مذهب أهل السنة والجماعة، بعد أن كان معتزلياً في أول أمره. وأبو نواس كان شاعراً ماجناً فتاب في آخر حياته، وغيرهم...

    والذي دعاني إلى الكتابة في هذا هو الغموض الذي يلفُّ أحوال بعض الأعلام في العصر الحديث في أواخر حياتهم، مع إشارات تفيد أنهم قد انتهوا عمّا كانوا عليه، أو غيَّروا أفكارهم إلى غيرها، ولكن الذين بقوا معهم في أواخر حياتهم هم أنفسهم أصدقاؤهم السابقون، ولذلك فإنهم حتى لو تغيروا، أو قالوا كلاماً لا يناسب مذهبهم، فإنهم لا يصرحون به! وسيبقى هذا سرًّا إلى أن ينطق أحد أفراد أسرهم بذلك، أو أحد أصدقائهم، أو تبرز وثيقة تفيد ذلك، كوصاياهم، أو كلمات أخيرة دوَّنوها وعُثر عليها بين أوراقهم بعد وفاتهم بمدة.

    وأذكر هنا أمثلة متنوعة تخصُّ الجانب الديني في حياة بعض الأعلام، أثير بها الانتباه، لتُبحث من جديد...

    كُتبَ الكثير عن الأديب المعروف طه حسين وعن حقيقة رجوعه عن أفكاره الخطيرة في الدين، وقد سمعت لقاء معه قبيل وفاته في الإذاعة وقد سُئل: ما الذي تفعله الآن؟ فقال أفضل شيء عندي هو الاستماع إلى القرآن الكريم. ونُقل عنه غير هذا مما يفيد تديُّنه، لكن الذي فصَّل هذا وبحث فيه علمياً هو الكاتب والبحّاثة الإسلامي المعروف أنور الجندي رحمه الله، الذي جمع أقواله في هذا وغيره بأمانة، ثم ذكر أنه لم يكتب ولم يؤثر عنه أنه تنازل عن أفكاره في كتبه السابقة، وتفصيله في كتابه "هل غيَّر الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة؟".

    والكاتب المسرحي المعروف توفيق الحكيم (ت 1407 هـ) كان سيء الفكر تجاه الدين، من ذلك قوله في كتابه "تحت شمس الفكر" (ص 15): "إن الحقيقة الدينية بعيدة عن وسائل العلم ودائرة بحثه، وإن العقل يستطيع أن يهدم الدين كما يشاء... فالتوفيق بين العلم والدين ضرب من العبث". وهذا جهل منه بالدين، أو بالدين والعلم معاً، ومن جهل شيئاً عاده. وإذا كان يقصد تاريخ النصرانية من خلال ما فعله رجال الكنيسة فلا بأس، أما الإسلام، فلا توجد آية قرآنية ولا حديث نبوي صحيح يناقض حقيقة علمية، أقول "حقيقة علمية"، وفرق بينها وبين "النظريات العلمية" التي مازالت في طور البحث والتجربة.

    وقبيل وفاته نشر توفيق الحكيم في "الأهرام" مقالات متتالية بعنوان "مع الله" أورد فيها أفكاره التشكيكية، وفيها حوارات يُجريها بينه وبين الله –سبحانه وتعالى- وردَّ عليه علماء كثيرون، أبرزهم الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله. ولعله رجع عن أفكاره أو أسلوبه في تلك الحوارات، وخاصة بعد أن تحدّاه الشيخ الشعراوي لمحاورته في الرَّائي علناً لبيان خطَئه. ثم إنه زاره في المستشفى قبل وفاته. وذكر ندمَهُ أحدُ تلاميذ الشعراوي. ورجوعه هو عن محاوراته المشار إليها، وليس عن كتابات أخرى له. وقد صدر كتاب في ذلك بعنوان "غضبة الله". 

    وهناك شخصيات أخرى تثار حولها أسئلة استفهام، فتاريخهم مليء بالفكر العلماني والحداثي العميق، أو هو الأمر الوحيد الذي يُعرف عنهم، لكن يُذكر عنهم من بعدُ عملٌ أو أعمال إسلامية، وقد علمت أن هذا الأمر يختلف من شخص إلى آخر!

    فهذا كاتب معروف اسمه "تركي الربيعو" عربي من قبيلة طيّء في الجزيرة السورية، كان غارقاً في فكر الحداثة إلى حدِّ كبير، ويكتب في الإسلاميات على النهج الغربي والفلسفي الحداثي، وقد كتب عنه باحث إسلامي في أطروحته للدكتوراه واعتبره من الملحدين، ومات بالسرطان في سنة 1427 هـ.

    حج في أواخر عمره، ووقف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبكى... ويقول لصديق له عن سبب ذلك: أنت تعلم أننا تربينا على حبه منذ لحظة ولادتنا، إنه في داخلنا جميعاً، لم أستطع تمالك نفسي أمام قبره والله، فبكيت".

    ولمّا استهزأ به أصدقاؤه من الكتاب العلمانيين والحداثيين وتهكموا به لأدائه مناسك الحج، بيَّن لصديق له أنهم فهموه خطأ، فهو لا ينظر إلى الإسلام كدين، ولكن كثقافة فقط!

    وحتى لا يُظنَّ أنني أؤول كلامه، أنقل ما ذكره صديقه من حديثه بالحرف، قال: "إن تقدميينا (يعني من السوريين) لم يستطيعوا أن يصدِّقوا أنني أديت مناسك الحج، هم لديهم موقفهم من الإسلام كدين، أنا بالنسبة لي الأمر مختلف جداً، الإسلام هو ثقافتي وثقافة الأمة".

    وهو يكتب في الإسلام كأي موضوع، بغضِّ النظر عن مصدره وقدسيته وما إلى ذلك، يعني أنه معرفة ما، يُشرح ويٌفسَّر مثل أي خبر أو قصة أو تاريخ أو معالجة اجتماعية أو عبادية!

    يقول عنه صديقه عبدالرحمن الحاج، الذي نشر كلامه المذكور في "المثقف" ع 594 (28/1/2008م): لم يكن يرى تركي الربيعو في دراساته الأنثربولوجية على أنها موقف من الإسلام، بل على أنها مساحات إشكالية في المعرفة يجب البحث فيها.اهـ.

    وهكذا ترى أن الربيعو كاتب عربي حداثي، ينظر إلى دينه كتراث وثقافة، قد يعتزُّ به، أو ينقده، لكن لا ينظر إليه ديناً ومعتقداً يخضع له. والله أعلم.

    وقد كتبتُ مقالاً عن "عبدالله بن حمود الطريقي" أبرز مؤسسي منظمة أوبك، وأول وزير للبترول في السعودية، فقد اتجه إلى الإسلام، وأعفى لحيته، وكان يؤذن في جامع الحيّ، ولا تكاد تفوته صلاة الجماعة، وله أفكار يسارية سابقة، وتأييد لمناهج عربية شيوعية في كتاباته، التي جُمعت ونُشرت من قبل مركز دراسات الوحدة العربية، الذي كان من مؤسسيه، ولم يُنقل عنه أنه ندم على أفكاره السابقة.

    كما كتبت مقالاً بعنوان: "هل تاب نزار قباني؟" فقد ذُكرَ أنه أنشد قصيدة رائعة أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم في سنواته الأخيرة، لكن أحواله وكلماته في أيامه الأخيرة تدل بكل وضوح على اعتزازه بشعره وافتخاره بمنهجه، ولم يُنقل لنا من قبل أصدقائه وعائلته أنه تنازل عن شيء منه، وقد شكَّك بعضهم في نسبة تلك القصيدة له، ولعلني منهم.

    وصلاح جاهين فنان وزجال مصري معروف، اشتهر بأعماله الكاريكاتورية في أشهر الصحف المصرية، وقد استغلَّ من قبل العلمانيين أسوأ استغلال، وأعلن بعد وفاته أنه مات بمرض "الاكتئاب" (عام 1406 هـ)، ويبدو أنه انعزل عن أصدقائه السابقين لتغيُّرٍ في أفكاره، وندمٍ على منهجه، فقد أطلق لحيته واعتنى بها، وظهر فيها بصورة جميلة، وكان آخر ما كتبه شعر إسلامي رائع للأطفال، ولو أنه كان كذلك من قبل لما أعطته الدولة منصب المسؤول العام عن ثقافة الطفل، بل لما نشرت له زجلاً ولا كاريكاتيراً واحداً، ومع ذلك لم أقرأ أنه "تاب" أو ندم على ما سبق له من رسم وكلام. وقد تكون وسائل الإعلام الحكومية والقائمون عليها هي السبب في حجب حقيقة ما آل إليه أمره.

    مما قاله في "غنوة للأطفال" بعنوان "ربنا"، التي أظنها نُشرت بعد وفاته (ذكرتُ المصادر في تتمة الأعلام):

    مين اللي كوَّر  الكرة الأرضية  ؟

    مين اللي  دوَّرها  كده  بحنِّية   ؟

    مين اللي في الفضا الكبير علَّقها؟

    ما  تقعش  منها  أي  نقطة مَيَّه؟

    مين  اللي  عمل  البني  آدمين  ؟

    مين  اللي  أدّانا  عقول وقلوب ؟

    ربنا.

    احنا  بنحب  ربنا.... وربنا  بيحبنا

    ويحبنا  أكتر كمان  لمّا  نحب بعضنا

    ويقول فيها:

    مين   لمّا   بنطلب   يسمعنا   ؟

    مين اللي قلبه علينا واحد واحد؟

    وكلنا  نحبه  ....  هو  الواحد  ؟

    ربنا.

    والله أعلم بخاتمتهم.