آخر أيام نزار قباني وموقفه من الدين

يعرف نزار قباني بأنه شاعر الغزل والمجون، ولا يكاد يضارعه في هذا أحد من الشعراء المُحدَثين والمعاصرين، فقد شغل محبي شعره على مدى عقود من الزمن بقصائد في الأدب المكشوف، يصف لهم فيها المرأة من ناحية المتعة والجمال وما إلى ذلك، مما رخص فيه قيمة المرأة الكبرى ومكانتها في التربية والتعليم، والحنان والرحمة، والعمل المناسب لها... وله كتابات في السياسة والوطنية كذلك، وفيه أسلوب السخرية والتهكم..

ولن أطيل في المقدمة، فالقصد من هذا المقال هو الإشارة إلى ناحية أخرى في حياة هذا الشاعر، غير ما كتب في المرأة والسياسة، وهو عن موقفه من الدين والعقيدة الإسلامية، وعن ثباته على أفكاره من عدمها.

ومن المؤسف أنه يتقدم على كثير من الشعراء في السخرية من ذات الله (سبحانه وتعالى) ومن رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ومن دينه العظيم، وينظم أشعاراً لا ينطق بها مسلم، بأسلوب تهكمي مزدرد، لا يلوي فيه على أدب وخُلق تجاه الإسلام الحنيف، وهو يعلمُ أنْ لا معاقب له على ما يقول في هذه الدنيا، وقد سمَّى ديواناً له بعنوان "أشهد أنْ لا امرأة إلا أنت"، وكأنه يساوي بين المرأة التي يتغزَّل بها مع ركن الشهادة التي لا ينطق بها إلا المسلم، ويُعصَم بها دمه.

    ومن شعره السيء المناقض للإسلام، قوله:

    قد كان ثغركِ مرة

    ربِّي فأصبح خادمي.

 

    وقوله:

    لا تخجلي مني فهذي فرصتي

    لأكونَ ربًّا أو أكون رسول.

 

    ويقول في القمر:

    أيها الرب الرخامي المعلَّق.

 

    ويقول في كفر وإلحاد:

    مشيئة الأقدار لا تردُّني

    أنا الذي أغيِّرُ الأقدار.

 

    ويستهزئ بالدين قائلاً:

    وأنبياء الله يعرفونني

    عليهم الصلاة والسلام

    الصلوات الخمس لا أقطعها

    يا سادتي الكرام

    وخطبة الجمعة لا تفوتني

    يا سادتي الكرام

    من ربع قرن وأنا

    أمارس الركوع والسجود

    أمارس القيام والقعود

 

    ويردف ذلك بقوله:

    وهكذا يا سادتي الكرام

    قضيت عشرين سنة

    أعيش في حظيرة الأغنام

    أعلف كالأغنام

    أنام كالأغنام

    أبول كالأغنام....

 

وهذا نموذج من شعره السيء، وهناك ما هو أسوأ بكثير، وليس القصد هنا التوسع فيه، وما أوردته له هو من أعماله الشعرية الكاملة، والسياسية 1/347، 2/761، 3/22، 3/329، 3/130-133، والمزيد منه في كتاب "الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها" لسعيد بن ناصر الغامدي.

ولكن هل بقي الشاعر على هذا الأسلوب والبعد عن الدين طوال حياته؟ ألا توجد محطات في حياته صحا فيها قلبه، وثاب فيها عقله، ووجد ما ينير له دربه؟

لقد تناقل بعض الناس أنه زار مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزار قبره، وأنه قال قصيدة مؤثرة عندما وقف أمام القبر الشريف باكياً، وأنشد خجلاً قصيدة طويلة أولها:

قصدوكَ وامتدحوا ودوني أغلقت             أبوابُ مدحكَ فالحروف عقامُ

ولكن تبيَّن بعد التحقيق أنها ليست له، وأنه لم يقل بيتًا واحدً من هذه القصيدة.

وهل تاب والتزم، أعني: هل تبرَّأ من الشعر الحرام، وأوصى بعدم نشر دواوينه التي فيها كفر وإلحاد، أو ما نظمه في المرأة من شعر ماجن متهتك، أو أي شيء يفيد ندمه على فسقه وفجوره الظاهر في شعره؟

لم يُنقل لنا شيء من هذا، والذين كانوا حوله في أخريات حياته لم يذكروا شيئاً من ذلك، فقد اطلعت على كتاب "آخر كلمات نزار" لعرفان نظام الدين، صديقه الحميم، رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط، الذي صدر بعيد وفات نزار (1420 هـ) وتوفي هو (1419 هـ)، وليس فيه ما يفيد أي ندم عنده، أو أيَّ التزام ديني لديه.

ويمكن اختصار الكتاب كله في كلمات قالها المؤلف، هي: "كان مفرطاً في ثقته بنفسه وبقصائده وبحب الجمهور له". كان هذا أبرز ما كان يردده نزار، ويطلب قراءة ما كتب عنه، في أواخر أيامه. ويقول: إن الأزمة القلبية التي مررت بها لم تكن أزمة جسدية فحسب، بل كانت استفتاء عظيماً لشعري!

ومما يستنتج من كلامه أيضاً الذي يدلُّ على عدم ندمه على شعره، قوله إن لغته لغة الكبير والصغير، والمرأة الناضجة والفتاة المراهقة، والرجل الحكيم والشاب اليافع، والعجوز والطفل.

كما ذكر أنه سلك طريق الشعر بدل الغناء، وأنه سعيد بهذا الاختيار.

وأنه غنى له مطربون ومطربات كبار، وذكر بإعجاب نجاة الصغيرة.

وقال: خمسون عاماً حاولت فيها أن أؤسس جمهورية للشعر، ترفع أعلام الحب والعدل والحرية.... ويتوج فيها النساء ملكات على مدى الحياة.

وقال: أشكر الله لأني لا أحتاج أحداً... وربما كنت الشاعر الوحيد الذي يعيش على دخل دواوينه (ما حكم ريع هذه الدواوين، وقد علم القارئ ما فيها؟).

ويذكر الدنيا، ولم أقف له على كلمة واحدة في الآخرة، يقول: الحمد لله، لقد أخذت حقي من هذه الدنيا (يعني الشهرة وحب "الناس" لشعره).

ويقول: لقد أرتني ذبحة الصدر قبل أن أموت أبعاد مجدي!

ومن غريب قوله: لم أنحنِ أمام أية سلطة سوى سلطة الله.

وآخر ما كتبه ثناء على الرئيس حافظ الأسد لأنه أطلق اسمه على شارع بدمشق!

وذكر أنيس مصور في الأهرام (ع 44493) أن آخر ما كتبه نزار قباني على فراش الموت: "لم يبقَ عندي ما أقول، تعبَ الكلام من الكلام، ومات في أحداق أعيننا النخيل، شفتاي من خشب، ووجهك مرهق، والنهد ما عادت تدقُّ له الطبول".

وقرأت ما كتبت عائلته في تأبينه، فلم أجد كلمة أو فضيلة له في الدين، سوى كلمات قد لا يُفهمُ منها مَيلٌ أو عاطفة دينية، كقول بناته: " لم يشبب والدنا بامرأة قط في شعره" ؟ و تقول ابنته فيه عندما كانوا في بيروت: "سوف أفضحك يوماً، إذ سأقول للناس كم أنت نقي وعذري وبيتوتي، تنام الساعة السادسة مساء وتنهض مع أذان الفجر، وكم أنت نظيف ونظامي ومعتزل عن ضوضاء الحياة الاجتماعية، فلا ليالي حمراء ولا زرقاء ولا صفراء ولا من يسهرون، ولا تسكع ولا من يتسكعون". ويبقى القول فيما كتبه من شعر وما فيه من انحراف عقدي وغيره.

وقد شكَّ كثيرون في تلك القصيدة التي أوردت بيتًا منها، واستبعدوا أن يكون هو قائلها. والنتيجة التي نصل إليها في نهاية هذا المقال أنه إن كان هو قائلها أو لم يكن، فالنتيجة واحدة!

ومن شعره، الذي قد يدلُّ على مذهبه فيما نحن بصدده، ولعله كان في ثورة عنفوانه الشعري آنذاك:

    ما تبتُ من عشقي ولا استغفرتهُ         ما أسخف العشّاقَ لو همُ تابوا

بل سيندمون كثيراً لو لم يتوبوا يا نزار، إذا قالوا مثلما تقول، والموعدُ يومُ الحساب، على كل كلمة كتبتها أو نطقتَ بها.