أحببتُ المقال القصير جداً - الذي يمكن أن يسمَّى المقال المصغَّر (الميكرومقال) - من العواميد اليومية القصيرة لكبار كتّاب الصحافة، فما كان يأخذُ ذلك من وقتي أكثر من دقيقة، وكنت أصل إلى المقصد والمعنى على حسب وجهة المقال بتلك السرعة، لأنه كُتب في حجمٍ صغير، وبأسلوب سهل ومشوِّق، مع وضوح الهدف، ومعالجةٍ لا بأس بها، وربما جدة في الموضوع.
وكرهتُ المقالات الطويلة لأنها تأخذ من وقتي، وتشوِّش على فكري، لكثرة تكرار أفكارٍ فيه، وتفصيلات مملَّة لا تلزم، وكنتُ أخرج من مقال ذي عشر صفحاتٍ بمحتوى صفحةٍ واحدة، وبمحتوى نصفِ صفحة من مقال في خمس صفحات. فكنت أتأفف وأضجر، وأعجبُ من هذه المقالات المملَّة التي لا تُقرأ غالباً وتُنشر بكثرة، وإذا قُرئت فعنوانها، أو كلماتٌ من أولها، أو خاتمة قصيرة إن وجدت...
ولماذا لا تُكتب قصيرةً لتُقرأ، ويتحققُ الهدف الذي يريده المؤلف، وذلك باختصارِ ما يريد قوله وإيجازه، ولا حاجة عندئذ لمقدمة ولا خاتمة، يعني بلا تمهيد، ولا تكرار، ولا مزيد أمثلة؟
ومن هنا أدعو إلى التركيز على المقالاتِ القصيرة جداً لتُقرأ. فإن المقالاتِ العاديةَ التي تكونُ عادةً ما بين ثلاث إلى عشر صفحات، لا يقرأ كلُّها كما قلت، ولا نصيفها، إلا من كانت له علاقة بها لسببٍ ما، وهو قليل.
بينما القصيرة تُقرأ من قبل فئات كثيرة من المجتمع، وخاصة في عصر التويتر والفيسبوك، الذي تُنشر وتنتشرُ فيه الجمل والفقرات القصيرةُ بسرعة، وليس المقالات.
فالناس يُقبلون على وجبات قصيرة من الثقافة في وقتنا كما يقبلون على اللفائفِ والمعلَّبات، لأنهم مشغولون كثيراً، ومتعلقون بمواعيد وأعمال، وينتظرون نتيجة ما ينجزونه، وليس عندهم وقت ليجلسوا ويقرؤوا ويتأملوا وينتظروا لينتهوا من مقالٍ عادي.
ومجاراةُ العصر بما لا يضرُّ لا بأس به، بل يستغلُّ هذا الموقف أو الظاهرة بالاستجابة له بما يناسبه، ويترك غيره لظروف ومواقف أخرى كما يأتي ذكره.
وأزيدُ على هذا الطلب بأن تُختصرَ المقالاتُ المهمة السابقة وتُنشر من جديد، ليتثقف بها الناسُ ويعرفوا كبار الكتّاب وأفكارهم المفيدة، التي تزيد جوَّ الثقافة حركة ونموًّا.
ويمكن لمجلات ومواقع إلكترونية أن تُبدع في هذا الأمر، ولا تقبلَ إلا المقالات القصيرة، نصفَ صفحة، وصفحة واحدة فقط، ولا تكون هناك صفحتان إلا لضرورة!
إننا بهذا نكسبُ جيلاً من القرّاء، وتزداد بهذا ساحة القراءة في المجتمع المسلم، التي نشكو من قلتها دائماً...
أقول: وهذا بخلاف البحوث والدراسات والمقالات العلمية، التي يلزمُ لها مساحةٌ أكبر من البحث والأدلة والأمثلة التطبيقية، ليُفهم ما يقال ويُستدلَّ به ويقتنع القارئ.
إنما عنيت المقال الثقافي والأدبي والعلمي الدارج، الذي يطلق عليه المقال الصحفي أو الأدبي أو الثقافي... وهو الذي يؤثر في الجمهور، وينتشر في مجتمع الشباب وطلبة الجامعات والطبقة المثقفة بشكل عام. وهو الذي يشكل الرأي العام، ويغيِّر الأفكار، ويهيِّج العاطفة، كما يكبح جماح الشائعات والشبهات بسرعة.
ولا بدع فيما أدعو إليه هنا، فقد انتشرت بدعة "القصص القصيرة جداً" أيضًا، وهناك قصائدُ قصيرةٌ أيضًا، وتوجد قصيدة إنجليزية تتألف من ثلاث كلمات فقط!
ومثلها المسرحيات والحوارات والمقاطع التمثيلية القصيرة.
ولو تتبعنا حفريات ثقافية أخرى، لوجدنا غيرها، مثل المقامات والخطب وقصص الأمثالِ والوصايا، وفنون أدبية أندلسية وتراثية عديدة...
والله يتولى أمورنا، ويجمع جهودنا في خدمة كتابه ودينه.