المثَل: عصارة فكرية جامعة، قيل نتيجة حادث معين ومشهور، سجَّله التاريخ على مدى الزمن، لما تناقله الناس وتداولته الألسن.. وكأن هذا المثَل صار شيئًا ثابتًا ترجع إليه كل حادثة مشابهة في حياة الناس، كما يلاحظ أنه جزء حي من حياة كل أمة أو بلد، فيُعنى به كتاب الأدب، ويدونون ما حِيكَ حوله من قصص وحكايات، ويزيدون في هذا شرحًا وتعليقًا وتحقيقًا؛ فالمثَل سِجِل لوقائع الناس، وترجمات لحالهم الفكري والاجتماعي والسياسي ..
والمثَل فن جميل ونوع فريد من الأدب الاجتماعي وتاريخ الشعوب، وهو يتميز بخصائص مرتبطة بالفكر البشري، قديمه وحديثه، كما أنه لا يفتأ يتردَّدُ على الألسنة في أي محيط اجتماعي عند الاستدلال به على حادثة أو فكرة، وهو يختلف بين أن يكون تاريخيًّا فصيحًا يستدرج ضمن البحوث والكتابات، أو شعبيًّا متداولاً يقال عند الأحاديث العامة واللقاءات الشخصية.
وقد رأيت بُعدًا متعمدًا عن هذه الثقافة التاريخية والتراث الجميل من قِبَل أدبائنا وباحثينا، ولا أدري ما السبب في ذلك، لكنني أعتبر المَثَل ثقافة أصيلة لأي شعب من الشعوب، ودلالة ملموسة لأخلاقِه وعاداته وخلفياته الفكرية، التي ينبغي ألاَّ تُلقَى أو تنسى بهذه السرعة في خضمِّ الثقافات الوافدة والغزو الفكري المكثَّف.
ولعل في إلقائِنا الضوء على مفهوم المَثَل وأهميته وتاريخه - بإيجاز - ما يعيد إلى الأذهان القيمة العِلمية والعَملية له، والله الموفق.
تعريف المثل:
في لسان العرب: أن المثَل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة تحلية ونعت، والمثل: الشيء الذي يضرب لشيء مَثلاً فيجعل مثله.
قال الميداني: فالمثَل ما يمثل به الشيء؛ أي: يُشبَّه، كالنَكَل مِن: ينكِّلُ به عدوه.
غير أن المِثْل لا يوضَعُ في موضع هذا المثَل، وان كان المثَل يوضع موضعه .. فصار المثَل اسمًا مصرحًا لهذا الذي يضرب ثم يُرَد إلى أصله الذي كان له من الصفة[1] ..، وقيل في تعريف المثل: إنه القول السائر المشبه مضربه بمورده.
وقيل: المثَل هو الحجة.
وقال المرزوقي: المثَل: جملة من القول مقتضبة من أصلها، أو: مرسلها بذاتها، تتسم بالقَبول، وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصدُه بها من غير تغيُّر يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهِه من المعاني.
قال اليوسي: وتلخيص القول في هذا المقام أن المَثَل هو قول يرِدُ أولاً لسبب خاص، ثم يتعداه إلى أشباهه، فيستعمل فيها شائعًا ذائعًا على وجهِ تشبيهِها بالمورد الأول[2].
أهمية الأمثال:
لا شك أن في حفظِ الأمثال وتعلُّمها قوة وحجة لدى المتكلِّم الذي يريد أن يؤيد حديثَه بالحجج والبراهين، ويقطع دابر الخلاف بشيء معروف يتوقَّفُ فيه الخَصْم ويستسلم عنده.
وفي (زهر الأكم) أن عمرَ رضي الله عنه كتب إلى الأنصار: علِّموا أولادكم العَوْم والفروسية، ورَوُّوهم ما سار من المثَل وما حسُن من الشعر.
فهذا حض على تعلُّم الأمثال، خصوصًا السائرة؛ فإنها أقطع للنزاع والشغب[3]؛ يقول إليوسي عن الأمثال: إنها زمام كل معنى، ومناط كل مبنى، ومنارُ كل مرمى، ومصباح كل ظَلْمَا، وبها يرتاض كل جموح، ويصبح المُنبَهِم ذا وضوح، وبها يعود الغائبُ مشهودًا، بل المعدوم موجودًا[4].
ويقول: إن ضرب المَثَل يوضح المبهم، ويفتح المنغلق، وبه يصوَّر المعنى في الذهن، ويكشف المعمَّى عند اللَّبس، وبه يقع الأمر في النفس حسن موقع، وتقبله فضل قَبول .. وتطمئن به اطمئنانًا، وبه يقع إقناعُ الخَصْم، وقطع تشوُّف المعترض .. وسر ذلك أن المَثَل يصوِّرُ المعقول بصورة المحسوس.
وقد يصوِّرُ المعدوم بصورة الموجود، والغائبَ بصورة المشاهد الحاضر، فيستعين العقل على إدراك ذلك بالحواس، فيتقوَّى الإدراك، ويتَّضح المدرك[5].
ميزة الأمثال:
قال إبراهيم النظام: يجتمع في المثَل أربعةٌ لا تجتمع في غيره من الكلام:
إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وجودة الكناية؛ فهو نهاية البلاغة، وقال ابن المقفع: إذا جعل الكلام مثلاً، كان أوضحَ للمنطق، وآنَقَ للسَّمع، وأوسعَ لشعوب الحديث[6].
بين الأمثال والحِكَم:
ينقُلُ الميداني عن بعضهم أنه سُمِّيت الحِكمُ القائمُ صدقُها في العقول أمثالاً لانتصاب صورِها في العقول، مشتقة من المثول الذي هو الانتصاب[7].
فالمَثَل - عامةً - هو حصيلة تجرِبة واقعية، والموعظة والحكمة هي تحديدُ شرط سلوكي وقيمة أخلاقية ترتبط مباشرةً بأحكام القِيَم، وقد تتصدر عن رؤيةٍ حدسية، ومن تجريبٍ واقعيٍّ[8].
ويقول محمد قنديل البقلي: والأمثال كما نرى لا شك عناوينُ لقصصٍ جرت، وكان لها أحداثٌ وقعت لأعيان بعينهم أول الأمر، وكذلك الحكمة، ولكن الفرق بين الاثنين: أن المَثَل لم يتحلَّلْ من أشخاص القصة، على حين أن الحكمةَ تحلَّلَتْ من الأشخاص.
ولعل اتصال الأمثال بأشخاصها هو الذي ضمِن لها الذيوع والبقاء والأثر النافذَ؛ إذ هي تحمل بين طياتِها أشخاصَها الذين جرت على أيديهم الأحداثُ؛ فهي بهذا تبدو حِسية، على حين تبدو الحِكمةُ معنوية، وهذه الحسية سبيلُها إلى النفس أيسرُ.. من أجل ذلك كان لها الذيوعُ وذاك البقاء، ثم ذلك الأثرُ النافذ في النفس.
ثم إن التَّجرِبة المثَليَّة تجرِبة عامة، على حين أن التجرِبة الحكيمة تجرِبة تكاد تكون خاصة، أعني: أن المَثَل يمليه الخاص كما يمليه العام، والحكمة لا يمليها إلا الخاصُّ في الأكثر.
ومن أجل ذلك كانت الأمثال بِلُغَةِ الخاصة مرة، وبِلُغَةِ العامة مرة، على العكس من الحكمة التي لم تجِئْ إلا على لسان الخاصة[9].
(نشر في جريدة المدينة (16/9/1405 هـ) )
[1] انظر مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد بن أحمد الميداني ج 1، ص 8 - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
[2] انظر هذه التعريفات في (زهر الأكم في الأمثال والحكم للحسن إليوسي ج 1 ص 20 - 21 - حققه الدكتور محمد حجي والدكتور محمد الأخضر، نشر وتوزيع دار الثقافة - الدار البيضاء - المغرب).
[3] زهر الأكم في الأمثال والحكم ص 35، ج 1.
[6] مجمع الأمثال للميداني ج 1 - ص 7 و 8.
[7] مجمع الأمثال للميداني ج 1 ص 67.
[8] الأمثال العربية ومصادرها ص 28 - نقلاً عن الأمثال الكونية المقارنة ص 15.
[9] وحدة الأمثال العامية في البلاد العربية - محمد قنديل البقلي - مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة 1968م.