رأيت في المثل عصارة فكرية جامعة، قيل نتيجة حادث معين ومشهور سجَّله التاريخ على مدى الزمن، لما تناقله الناس وتداولته الألسن ..
وكأن هذا المثل صار شيئًا ثابتًا، ترجع إليه كل حادثة مشابهة في حياة الناس، كما يلاحظ أنه جزء حي من حياة كل أمة أو بلد، فيعتني به كتَّاب الأدب، ويدونون ما أُثِر عنه من قصص وحكايات، ويزيدون الكتب القديمة في هذا شرحًا وتعليقًا وتحقيقًا؛ فهو سجلٌّ لوقائع الناس، وترجمان لحالهم الفكري والاجتماعي ..
إنه فن جميل ونوع فريد من الأدب الاجتماعي وتاريخ الشعوب، ويتميز بخصائص مرتبطة بالفكر البشري، قديمه وحديثه؛ فهو لا يفتأ يتردد على الألسنة في أي محيط اجتماعي، عند الاستدلال به على حادثة أو فكرة، وهو يختلف بين أن يكون تاريخيًّا فصيحًا يدرج ضمن البحوث والكتابات المختلفة، أو شعبيًّا متداولاً يقال عند الأحاديث العامة واللقاءات الشخصية.
وقد رأيت بُعدًا متعمدًا عن هذه الثقافة التاريخية والتراث الجميل من قِبَل أدبائنا وباحثينا، ولا أدري ما السبب في ذلك! لكنني أعتبر المَثَل ثقافة أصيلة لأي شعب من الشعوب، ودلالة ملموسة على أخلاقه وعاداته وخلفياته الفكرية، التي ينبغي ألا تلقى أو تنسى بهذه السرعة، في خضم الثقافات الوافدة، والغزو الفكري المكثف ..
ولعل في إلقائنا الضوءَ على مفهوم المثل وأهميته وتاريخه ورحلة في عالمه - بإيجاز - ما يعيد إلى الأذهان القِيمة العِلمية والعملية له، وبالله التوفيق.
تعريف المثل وأهميته:
يورد (الحسن اليوسي) جملة من التعريفات التي قيلت في المثل ثم ينتهي إلى قوله: إن المثل هو قول يرِد أولاً لسبب خاص، ثم يتعداه إلى أشباهه فيستعمل فيها شائعًا ذائعًا على وجه تشبيهها بالمورد الأول.
ولا شك أن في حفظ الأمثال وتعلمها قوةً وحجة لدى المتكلم الذي يريد أن يؤيد حديثه بالحجج والبراهين، ويقطع دابر الخلاف بشيء معروفٍ يتوقف عنده الخَصم ويستسلم.
وفي (زهر الأكم) أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى الأنصار: علِّموا أولادكم العَوم والفروسية، ورَوُّوهم ما سار من المَثَل وما حسُن من الشِّعر.
فهذا حضٌّ على تعلم الأمثال، خصوصًا السائرة؛ فإنها أقطعُ للنزاع والشَّغب.
يقول اليوسي: إن ضرب المثل يوضح المنبهم، ويفتح المنغلق، وبه يصوَّر المعنى في الذهن، ويكشف المعمَّى عند اللَّبس، وبه يقع الأمر في النفس حسن موقع، وتقبله فضل قبول، وتطمئن به اطمئنانًا، وبه يقع إقناع الخَصم وقطع تشوف المعترض .. وسرُّ ذلك أن المثل يصور المعقول بصورة المحسوس، وقد يصور المعدوم بصورة الموجود، والغائب بصورة المشاهد الحاضر، فيستعين العقل على إدراك ذلك بالحواس، فيتقوى الإدراك ويتضح المدرك.
قال إبراهيم النظام: يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام:
إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة.
وقال ابن المقفع: إذا جعل الكلام مثلاً، كان أوضح للمنطق، وآنق للسمع، وأوسع لشعوب الحديث.
كتابة الأمثال:
يرجع الاشتغال بالتأليف في الأمثال إلى أوائل عصر الخلفاء الأمويين، لكنه لم يصلنا شيء من كتاباتهم، بل يُعَدُّ كتاب (أمثال العرب) للمفضل الضبي - الذي توفي نحو (178) هـ - أقدم كتاب وصل إلينا في الأمثال، أما أروعُ وأجمع كتاب ألِّف في الأمثال، فإنه (مجمع الأمثال) لأبي الفضل أحمد بن إبراهيم الميداني (ت 158) هـ، ويقع في جزأين كبيرين، جمع فيهما أكثر من ستة آلاف مَثَل.
أصل الأمثال:
يقول صاحب جمهرة الأمثال البغدادية: أميل إلى القول: إن لكثير من الأمثال قصةً بُنِي عليها المَثل، فمن تلك القصص ما بقي متداولاً مع المثل، ومنها ما اندثر وبقي المَثل متداولاً دون معرفة قصته.
وقد تكون القصة أصلاً حقيقيًّا للمثل، وقد تكون موضوعة، وقد تُروى القصة على لسان الحيوانات، وهي لا شك موضوعة، وقد يختلف الناس في رواية القصة الواحدة، وقد يحكى للمثل أكثر من قصة.
أنواع المثل:
يكون المثل واردًا في القرآن الكريم، أو في الأحاديث الشريفة، وقد يكون من قول حكيم أو شاعر، أو نتيجة حادثة أو قصة معينة .. قاله أحد الناس.
أما عن الفَرق بين الأمثال والحِكم، فيقول الأستاذ (محمد قنديل البقلي):
الأمثال عناوينُ لقصص جرَتْ، وكان لها أحداث وقعت لأعيان بعينهم أول الأمر، وكذلك الحكمة، ولكن الفَرْق بين الاثنين أن المثل لم يتحلل من أشخاص القصة، على حين أن الحكمة تحللت من الأشخاص .. فالأمثال تبدو حسية، على حين تبدو الحكمة معنوية ... ثم إن التجرِبة المثلية تجرِبة عامة، على حين أن التجرِبة الحكمية تجرِبة تكاد تكون خاصة، أعني: أن المثل يمليه الخاص كما يمليه العام، والحكمة لا يمليها إلا الخاص في الأكثر، ومن أجل ذلك كانت الأمثال بلُغَة الخاصة مرة، وبلُغَة العامة مرة، على العكس من الحكمة التي لم تَجِئْ إلا على لسان الخاصة.
رحلة في عالم الأمثال:
وردت في القرآن الكريم آياتٌ عظيمة، فيها تذكرة للناس وبيان لطريق الهدى لهم، ونلمح بينها آيات فيها تشبيه للمعقول بالمحسوس، وذلك بضرب مثل لتقريب الصورة إلى أذهان الناس بما يعايشونه محسوسًا واقعًا في حياتهم العملية، لتأخذ الفكرة مجالَها إلى النفس وتستقر في القلب، وتغدو لوحة معلَّقة على باب الفؤاد، فيها الحكمة والعِبرة والعظة، من ذلك قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] .. {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19] الآية، وقوله عز وجل: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24]، وقوله جل شأنه: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].
وحتى نعرف مدى فائدة ضرب المثل وتشبيه المعقول بالمحسوس، فإننا نقتطع هذا التفسيرَ المبدِع من (الظلال)، عندما يلقي صاحبه - رحمه الله - ظلالاً على قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51].
ومشهد حُمُرِ الوحش وهي مستنفرة تفرُّ في كل اتجاه، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه - مشهدٌ يعرفه العرب، وهو مشهد عنيف الحركة، مضحك أشدَّ الضحك؛ حيث يشبه به الآدميون حين يخافون! فكيف إذا كانوا إنما يفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حُمُر، لا لأنهم خائفون مهدَّدون، بل لأن مذكِّرًا يذكرهم بربهم وبمصيرهم، ويمهد لهم الفرصة ليتَّقوا ذلك الموقف المهين، وذلك المصير العصيب الأليم؟! إنها الريشة المبدعة ترسُمُ هذا المشهد وتسجِّله في صُلب الكون، تتملاه النفوس فتخجل وتستنكف أن تكون فيه.
كما وردت في الحديث الشريف أمثال كثيرة، حتى نقل عن عبدالله بن عمرو قوله: حفظتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل!
من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((أخبروني بشجرةٍ كالرجل المسلم، تؤتي أُكلَها كل حين بإذن ربها، لا يتحاتُّ ورقها؟ ثم قال: هي النخلة)).
((إن الجنة تحت ظلال السيوف))، ((إن مَثَل العلماء في الأرض مَثَل النجوم في السماء يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن يضل الهُدى))، ((إياكم وخضراء الدمن))، قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: ((المرأة الحسناء في منبت السوء))، ((مثل المؤمن مثل السنبلة، تقوم أحيانًا وتميل أحيانًا))، ((يا أنجشة، رويدًا سوقَك بالقوارير))، سميت النساء قوارير؛ لأنهن شبهنها بالرقة واللطافة وضعف البِنية.
هذا وتحوي كتب الأمثال - إلى جانب بعض الأمثال - قصصًا غريبة وعجيبة، سواء أكانت حوادث فردية أم جماعية، كما أن فيها من الوقائع التاريخية والأحوال الاجتماعية ما لا يُستهان بتدوين بعضها، والتنويه بشأنها، وإعادة استذكارها، وكتابة قصصها بلُغَة سهلة تقرب إلى أفهام الشباب والناشئين، حتى لا ينسَوْا شطرًا من تراثهم .. هو جزء عزيز من تاريخهم الأدبي.
ومن القصص الجميلة، بل والعجيبة أيضًا، التي تذكرها كتب الأمثال مبينة سبب وردود المثل والجوانب العامة المحيطة به: "أحلم من الأحنف"، "استراح من لا عقل له"، "ترى الفتيان كالنحل وما يدريك ما الدخل"، "خطب يسير في خطب كبير"، "كيف أعاودك وهذا أثر فأسك"، "الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق" ... وغيرها كثير، ولو لم يطُلْ بنا المقال لسردنا للقارئ قصة منها، ولكننا نذكر رؤوس الأقلام وننبه إلى أهمية الأمثال.
وأعيد إلى الذاكرة أن أدباءنا ومؤرخينا المسلمين اعتنوا بهذه الأمثال، ورأوا فيها تعبيرًا عن الواقع، وإقرارًا لمواقف أدبية واجتماعية تاريخية حاسمة، وأشاروا إلى الفائدة التي تُجنى من وراء كل مَثل.
ولا أدري هل أكون مصيبًا إذا قلت: إن معظم الأمثال التي وردت في تراثنا هي التي حدثت في العصر الجاهلي أم لا أكون مصيبًا في ذلك! كما أن الكثير من الأمثال التي لم ترِدْ لها قصص قيلت في العصر الجاهلي أيضًا.
ولذلك فإنني أقترح على الكتَّاب المهتمين بالأدب الإسلامي - وبخاصة القديم منه - أن يفردوا الأمثال التي قيلت في العصر الإسلامي ابتداءً من عهد النبوة؛ ذلك أنها أصفى في الدلالة على واقع أمة نحن مرتبطون بها وأفهم لواقعها، وهي أكثر قربًا والتصاقًا بأفكارِنا وعقائدنا وسلوكنا من الأمثال الجاهلية التي حدثت في ظروف وبيئة خاصة، وبلغة صعبة لا تُفهَم إلا بالشرح والتبسيط.
ولا يعني هذا الغض من قيمة تلك الأمثال، ما دامت فيها دروس وفوائد تفيد المسلم في حياته؛ فالحكمة ضالَّة المؤمن أنى وجدها فهو أحقُّ بها.
لكنني أرى هذا الإفراد والتقسيم يكون أكثر فائدة، وأنجح إخراجًا، والله من وراء القصد.
(نشر في "المجلة العربية" بالرياض ع 93 (شوال 1405هـ) )