الكتب المؤلَّفة في علم النفس العلاجي كثيرةٌ في هذا العصر، والذي يهمنا في هذا الموضوع هو ما كتَبَه علماؤنا المسلمون فيه، من تشخيص الأمراض النفسية، ثم طرق علاجها، مستندين في ذلك إلى علومهم الإسلامية، غير متطفِّلين على موائدَ موبوءةٍ وغريبة، لا تلائم ديننا ومجتمعنا. لقد سجَّل محتوى هذا الموضوع، ودمجه بعلم الأخلاق العالمُ والمفكر المعروف ابن حزم الظاهري، المتوفى سنة 456هـ، في كتاب رائع سمَّاه "مداواة النفوس، وتهذيب الأخلاق، والزهد في الرذائل"، وأودعه خبرتَه العلمية، وتجربته العملية، كما أشار إلى ذلك في المقدمة، وذكر أنه أتعب نفسه فيه وأجهدها، وأطال فيه الفكر؛ ليهديه هنيئًا إلى الناس؛ لإصلاح ما فسد من أخلاقهم، ومداواة علل نفوسهم، وأنه أفضل من كنوز المال، وعقد الأملاك، إذا تدبَّره ويسَّره الله تعالى لاستعماله، وأنه يرجو من وراء كتابه هذا أجرًا عظيمًا؛ لنيَّتِه في نفع عباده.
وقد وزَّع موضوعاتِه على أحدَ عشرَ فصلاً، في كل فصل فقرات، كثير منها على هيئة حِكَم ووصايا وإرشادات، منها ما هو قصير، ومنها ما هو طويل، وكان الأول في "مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة"، وضمنه "باب عظيم من أبواب العقل والراحة"، وموضوعات الفصول التالية هي: العلم، الأخلاق والسير، الإخوان والصداقة والسير، أنواع المحبة، صباحة الصور، ما يتعلق به الناس في الأخلاق، مداواة ذوي الأخلاق الفاسدة، غرائبُ أخلاق النفس، تطلُّعُ النفس إلى معرفة ما يستر عنها من كلامٍ مسموع أو شيءٍ مرئي، وإلى المدح وبقاء الذِّكر، حضورُ مجالس العلم.
ولن أعطي الموضوع حقَّه في هذا المقال، كما أنني لا أعرض ما في الكتاب كله، فإن شأني في الحديث عن الكتب هو بيان موضوعها، وأهم محتوياتها، أو ما تنبغي الإشارة إليه، ومن شاء المزيد، فعليه بالكتاب نفسه، فإنه متوفر.
والذي استوقفني فيه هو حديثُ ابن حزم الصريح عن نفسه، وعن العيوب النفسية والخُلقية التي كانت مترسِّبة في نفسه، وكيف صبر على معالجتها، قال في فصل "الأخلاق والسير": "كانت فيَّ عيوبٌ، فلم أزل بالرياضة، واطِّلاعي على ما قالت الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق، وفي آداب النفس، أعاني مداواتها، حتى أعان الله - عزَّ وجلَّ - على أكثرِ ذلك بتوفيقه ومنِّه".
وما أود التنبيه إليه: أن طبائع الناس وتربيتهم تختلف من شخص إلى آخر، ولو بقي كل شخص على ما هو عليه، لما وجد تواؤمًا ووحدة اجتماعية بينه وبين إخوانه المسلمين، فالكل يتعالج بآداب الإسلام وأخلاقه؛ لأجل ذلك، بقدر ما يستطيع، ومن المؤسف ألاَّ تجد تأثيرًا واضحًا للإسلام على أشخاص، وهم يطبِّقون شعائر الإسلام الظاهرة، لا لشيء سوى أنهم "مرتاحون" مع طبائعهم، ويصعب عليهم التخلي عما تربَّوا عليه، ولو كان ذلك مخالفًا للإسلام، وخاصة في السلوك والمعاملة، يعني أنهم لا يطبقون ما لا يوافق "هواهم".
ولا شك في صعوبة ذلك، وهو ما ألجأ هذا العالم الكبير إلى اتخاذ خطوات حازمة؛ ليعالج نفسه؛ حتى تتوافق وروحَ الإسلام، ومن العجب أن يقوم بسرد عيوبه الخفية أمام الناس كلهم، ويعدِّدها بكل دقة، إلا ما اعتذر من ذِكره، وهو ما لا أعرف سببًا له سوى إشعار القراء وتشجيعهم على الاعتراف بعيوبهم، ومعالجتها أيضًا، والذي يبدو لي أن ستر العيب، وعدمَ إظهاره أفضلُ، إلا للطبيب، والصديق، والعالم؛ بقصد المعالجة، كما أن بالإمكان دراسة هذه الأمراض، وبيان علاجها، دون ذكر مصدرها.
قال رحمه الله فيما ذكرنا من رأيه: "وتمام العدل، ورياضة النفس، والتصرف بأزمَّة الحقائق - هو الإقرار بها؛ ليتعظ بذلك متَّعظٌ يومًا - إن شاء الله".
ثم عدَّد نحوَ (12) عيبًا نفسيًّا فيه، وكيف عالجها، أورد بعضًا منها، قال:
"فمنها: كلَفٌ في الرضا، وإفراط في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك، حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام، والفعل، والتخبط، وامتنعت مما لا يحلُّ من الانتصار، وتحمَّلت من ذلك ثقلاً شديدًا، وصبرت على مضض مؤلم، كان ربما أمرضني، وأعجزني ذلك في الرضا، وكأني سامحت نفسي في ذلك؛ لأنها تمثَّلت أن ترك ذلك لُؤْم".
وهو يعني بعلاج الغضب ما ورد في كتمه من أجر؛ في قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران: 134].
قال: "ومنه عُجْب شديد، فناظرَ عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها، حتى ذهب كله، ولم يبقَ له - والحمد لله - أثرٌ؛ بل كلَّفت نفسي احتقار قدرها جملة، واستعمال التواضع".
"ومنها: حقد مفرط، قدرت بعون الله - تعالى - على طيِّه وستره، وغلبته على إظهار جميع نتائجه، وأما قطعه البتة فلم أقدر عليه، وأعجزني معه أن أصادق مَن عاداني عداوة صحيحة أبدًا".
ويذكر هنا ما يعيب عليه الناقدون، وما زالوا، وكأنهم لم يقرؤوا كتابه هذا، فيقول: "وأما الذي يعيبني به جهَّال أعدائي من أني لا أبالي فيما أعتقده حقًّا، عن مخالفة مَن خالفتُه، ولو أنهم جميع من على ظهر الأرض، وأني لا أبالي موافقة أهل بلادي في كثير من زِيِّهم الذي تعوَّدوه لغير معنى، فهذه الخصلة عندي من أكبر فضائلي التي لا مثيل لها".
ثم تحدث عمن ينال منه، وأنواعهم، وموقفه من كل واحد منهم.
أقول: لاحظْ قوله "جهَّال أعدائي"، الذي لا يناسب حديثَه من أنه يعالج نفسه من العيوب؛ فإن الذين ينقدونه مسلمون، ولا يقال لهم أعداء؛ بل هم إخوان، وهذه الأخوة عقدة عقدها الله تعالى لا يقدر أحد أن يحلَّها؛ فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الحجرات: 10]؛ يعني: حتى لو قتل بعضهم بعضًا فإنهم "إخوة"، وليت هؤلاء الإخوة الذين يتخاصمون، ويتقاذفون بكلمات قاسية، وبعضها متدنية، وبعضها كأنها عقارب، ليتهم عالجوا نفوسهم أولاً، وعلموا أنما يخاطبون إخوة لهم في الدِّين، وأن هذه الأخوَّة شأنها عظيم، لا يعرفه إلا أولو النهى والأحلام.
وانظر كلامًا مخيفًا له في الظالمين، حيث يقول رحمه الله: "وأما مَن طُبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه، فلْييأس من أن يُصلح نفسه، أو يقوِّم طباعه أبدًا، وليعلم أنه لا يفلح في دِين، ولا في خُلق محمود".
أقول: لعله قال هذا عن تجربة ممن حوله، أما ما عدا ذلك فإن رجوعهم إلى الحق والتوبة مما فرَّطوا - واردٌ، وفي القرآن ما يدل على قبول توبتهم بشروط، وفي السنة يذكر القارئُ الحديثَ المشهور في قتل الرجل تسعة وتسعين، وإكمال المائة، لقوله إنه لا توبة له، ولا شك أن الذي يسفك دماء الناس من غير حق هو من أظلم الظالمين، بعد الشرك بالله.
ويقول ابن حزم في اعترافٍ من أن الإنسان لا يكون كاملاً؛ نظرًا لنقص فيه أصلاً، ولكن يقدر أن يقلِّل من عيوبه: "لا يخلو مخلوق من عيب، فالسعيد من قلَّت عيوبه ودقَّت".
وفي موضوع "الإخوان والصداقة" يقول في حزن ومرارة:
"وأنا أعلمك أن بعض مَن خالصني المودة، وأصفاني إياها غاية الصفاء، في حال الشدة والرخاء، والسعة والضيق، والغضب والرضا - تغيَّر عليَّ أقبح تغيُّر، بعد اثني عشر عامًا متصلة في غاية الصفاء؛ لسبب لطيف جدًّا، ما قدَّرت قط أنه يؤثر مثله في أحد من الناس، وما صلح لي بعدها، ولقد أهمَّني ذلك سنين كثيرة همًّا شديدًا".
ثم ذكر أنه مع ذلك لا يستعمل معه سوء المعاملة؛ لئلا يلحق المرء بشرار الناس، لكن الطريق مع أمثال هؤلاء وعرٌ شاق، فليكن حذرًا، "وهذه الطريق هي طريق الفوز في الدين والدنيا، يُحْرِز صاحبها صفاء نِيَّات ذوي النفوس السليمة، والعقول الصحيحة، البرآء من المكر والخديعة، ويحوي فضائل الأبرار، وسجايا الفضلاء، ويحصل مع ذلك على سلامة الدهاة، وتخلُّص الخبثاء، وهي أن تكتم سرَّ كل مَن وثق بك، وأن تفي لجميع مَن ائتمنك، ولا تأتمن أحدًا على شيء من أمرك تشفق عليه، إلا عن ضرورة لا بد منها".
ويقول: "إذا نصحت فانصح سرًّا لا جهرًا، أو بتعريض لا بتصريح، إلا أن يفهم المنصوح بغرضك، فلا بد من التصريح له".
ويقول: "لا تنقل إلى صديقك ما يؤلم نفسه، ولا ينتفع بمعرفته، فهذا فعل الأرذال، ولا تكتمه ما يستضرُّ بجهله، فهذا فعل أهل الشر".
وفي جانب آخر من هذا الاهتمام، يقول منبِّهًا القارئَ إلى ما يمكن أن يستفيد منه، ولو بدا ذلك في غير بابه: "لكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بِمَحْكِ - وهو اللجاجة والمجادلة والمنازعة في الكلام - أهلِ الجهل منفعةً عظيمة، وهي أنه توقَّد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري، وتهيَّج نشاطي، فكان ذلك سببًا إلى تآليفَ عظيمةِ المنفعة، ولولا استثارتُهم ساكني، واقتداحهم كامني، ما انبعثتُ لتلك التآليف".
وفي موضوع أنواع المحبة، يقول في الطمع: "الطمع إذًا أصل لكل ذلٍّ، ولكل همّ، وهو خُلق سوء وذمٍّ، وضده نزاهة النفس، وهذه صفة فاضلة، متركبة من النجدة، والجود، والعدل، والفهم".
ويذكر في جانب من التحليل النفسي حول الغَيْرة، وأنه خُلق فاضل: "أخبرني بعض مَن صحبناه في الدهر عن نفسه، أنه ما عرَف الغيرة قط، حتى ابتُلي بالمحبة، فغار، وكان هذا المخبِر فاسدَ الطبع، خبيثَ التركيب، إلا أنه كان من أهل الفهم والجود".
أقول: فإن المرء إذا كره خُلقًا في شخص، فإن فيه أخلاقًا يحبها، فلا يُفْرط في الصدِّ، ولا في القرب، والمعرفة بجمال النفس وعيوبها تورث توازنًا في التعامل معها عند العاقل.
ويقول في سلسلةٍ من تولُّدِ الأمراض النفسية، ونشوء الأخلاق السيئة: "الحرص متولد عن الطمع، والطمع متولد عن الحسد، والحسد متولد عن الرغبة، والرغبة متولدة عن الجور والشح والجهل. ويتولد من الحرص رذائلُ عظيمةٌ، منه: الذل، والسرقة، والغصب، والزنا، والعشق، والمسألة".
وفي فصل ما يتعامل به الناس في الأخلاق، يذكر أن "الكذب متولِّد من الجور والجبن والجهل؛ لأن الجبن يولِّد مهانةَ النفس، والكذابُ مهين النفس، بعيدٌ عن عزتها المحمودة".
ويشير إلى دواء نافع لهموم الدنيا، وهو الزهد، فيذكر أن الزاهد إذا نام لا يخشى على شيء مما يملكه، أو يتنافس فيه، فلا يذكر أهلاً ولا منصبًا، ولا فقرًا ولا غنًى، كما يذكر أن من أساليب تأثير الوعظِ الثناءَ بحضرة المسيء على مَن فعل خلاف فعله.
وانظر إلى هذا الاستنتاج منه، لتطعمه ناضجًا، ولتأخذ حذرك، قال: "تأمَّلت كلَّ ما دون السماء، وطالت فيه فكرتي، فوجدت كلَّ شيء فيه، من حيٍّ وغير حي، مِن طبعِه إن قويَ أن يخلع على غيره من الأنواع كيفياتِه، ويلبسه صفاته، فترى الفاضلَ يودُّ لو كان الناس فضلاء، وترى الناقص يودُّ لو كان كل الناس نقصاء، وكل ذي مذهب يودُّ لو كان الناس موافقين له".
قلت: ولعلك عرفت الآن ما حكاه الله تعالى عن المشركين والمنافقين في القرآن الكريم، أنهم وَدُّوا لو كانت أمة محمد مثلهم كفارًا؛ قال سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [سورة النساء: 89]، وقال أيضًا: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [سورة الممتحنة: 2].
ومما تعجَّبَ منه: قوم غلبت عليهم آمال فاسدة، لا يحصلون منها إلا على إتعاب النفس عاجلاً، ثم الهمِّ والغمِّ آجلاً، كمن يتمنى غلاء الأقوات التي في غلائها هلاك الناس، وقال بعد مزيد من الوصف: "فلو تمنى الخير والرخاء، لتعجَّل الأجر والراحة والفضيلة، ولم يتعب نفسه طرفة عين فما فوقها، فاعجبوا لفساد هذه الأخلاق بلا منفعة".
والفصل المهم هو "مداواة أدواء الأخلاق الفاسدة"، الذي بدأه بلزوم معرفة الشخص عيوبه، وأنه إذا لم يعرفها أو لم يعترف بها، فهو ممتحَن بالعُجب، وأنه بهذا أعظم الناس عيوبًا، وأضعفهم تمييزًا، ثم ذكر أن مثل هذا ضعيف العقل، عاجز، وأحمق، وأورد أوصافًا أخرى له، تجعله في أدنى المستويات الإنسانية.
ونصح المعجَب بنفسه أن يقارن بين نفسه وبين مَن هو أفضل منه، وأنه بهذا يفيق من الداء القبيح الذي يولِّد عليه الاستخفاف بالناس، وذكَّره بأن فيهم - لا شكَّ - خيرًا منه، قال: فإذا استخففتَ بهم بغير حق، استخفُّوا بك بحق؛ لأن الله تعالى يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [سورة الشورى: 40]، وأنه يتولَّد في نفسه بهذا أنه أهل للاستخفاف به على الحقيقة، مع مقت الله - عزَّ وجلَّ - وطمس ما فيه من فضيلة.
ثم نصح وفصَّل، وركَّز على المعجَبين بعلمهم، وأنه لا ينبغي أن يسخطََ الله على هذه النعمة بهذا الخُلق السيئ، وذكَّرهم أنه - سبحانه - قادر على أن يسلبه منهم بعلَّة، ويسوق في ذلك خاطرة لطيفة، عن عبدالملك بن طريف، الذي وصفه بأنه كان ذا حظ عظيم من الحفظ، لا يكاد يمرُّ على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته، وأنه ركب البحر، فمرَّ به هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ، ولم يعاوده ذلك الذكاء بعدُ.
قال: وأنا أصابتني علَّة، فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ، إلا ما لا قَدْرَ له، فما عاودته إلا بعد أعوام.
ثم تحدث عن الإعجاب بالشجاعة، وبالجاه في الدنيا، وبالمال، وبالجمال، وبالنَّسَب، وبحب الامتداح، وبالبطولة، وهو في كل موضوع منه ينصح، ويعالج، ويضرب الأمثلة، وبيَّن بعد ذلك مضارَّ العجب ونتائجه السيئة، في عِلم وقدرة وخبرة.
وفي متابعة لسلوك الناس ومواقفهم في هذا المجال، استنتج أنه: "كلما نقص العقل، توهَّم صاحبه أنه أوفر الناس عقلاً، وأكمل ما كان تمييزًا"، ويقول: إن في هذا شغبًا عجيبًا، فالجاهلُ الناقص يهزأ بالحكماء وأفاضل العلماء، والصبيان الصغار يتفكهون بالكهول، والسفهاء يستخفون بالعقلاء، وضعفة النساء يستنقصن عقول أكابر الرجال وآراءهم.
وذكر أن أحسن دواء لهؤلاء هو الفقر والخمول، ولعلَّه يعني: عدم الالتفات إليهم، وعدم استعمالهم، قال: "وإلا فَدَاؤهم وضررهم على الناس عظيم جدًّا، فلا تجدهم إلا عيَّابين للناس، وقَّاعين في الأعراض، مستهزئين بالجميع، مجانِبين للحقائق".
ويورد نوادرَ في علم السلوك الاجتماعي، كالرجل يمدح أولاده، وزوجَه وما بها من حسن وجمال، وأنها أعقل منه.
وإذا أردت معرفة العدل والإنصاف في أمر، فينصحك أن تتوهم نفسك في مكان الخصم، فإنه يظهر لك ذلك.
وإذا كنت تريد العافية؛ يعني: الهناء والطمأنينة، و"عدم وجع الرأس"، فهو يدلك على ذلك بقوله: "كم شاهدنا ممن أهلَكَه كلامُه، ولم نرَ قط أحدًا - ولا بلغَنَا - أنه أهلكه سكوتُه، فلا تتكلم إلا بما يقرِّبك من خالقك، فإن خفتَ ظالمًا فاسكت".
ويبدو أن اللقاء بين "المتزاعلين" أفضل من ابتعاد بعضهم من بعض، فهو يقول: "اللقاء يذهب بالسخائم، فكأن نظر العين إلى العين يُصلح القلوب".
ويصنف الأشياء التي تكدر صفو النفوس وتزعجها، وتحيل الحياة إلى حزن، وقلق، ونكد، فيقول: "أشد الأشياء على الناس: الخوف - يعني فقدان الأمن - والهمُّ، والمرض، والفقر".
ويقول في حكمة – بعد كلام -: "وأشد الأمراض كلها ألمًا وجعٌ ملازم في عضوٍ ما بعينه، وأما النفوس الكريمة، فالذلُّ عندها أشد من كل ما ذكرنا، وهو أسهل المخلوقات عند ذوي النفوس اللئيمة".
ويركز على الفضائل الإسلامية باعتبارها أساسية للتكامل النفسي، والحيازة على درجة السعادة في الدارين، من ذلك قوله: إنما ينبغي أن يرغب العاقل في الاستكثار من الفضائل وأعمال البر، التي يستحق مَن هي فيه الذِّكرَ الجميل، والثناءَ الحسن، والمدحَ، وحميدَ الصفة، فهي التي تقرِّبه من بارئه تعالى.
وقال في موضع آخر: مَن جهلَ معرفة الفضائل، فليعتمد على ما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحتوي على جميع الفضائل.
خاتمة: كان ما سبق قراءة في فكر ابن حزم من خلال كتابه "مداواة النفوس"، التي ركز فيها على العلاج النفسي بالنصوص والتوجيهات الإسلامية؛ ليحظى المرء براحة نفسية، وأخلاق عالية، وليستفيد منه مجتمعُه ووطنه، وليرضى عنه ربُّه، فيكون بذلك أحرز درجة الفوز والفلاح، في دنياه وآخرته - إن شاء الله - كما ركز على المبتلين بالعيوب النفسية الشديدة، وأمراضها، وما يبحث في علم النفس الإكلينيكي أو السريري، فقد بيَّن ضرورة العلاج منها إسلاميًّا، وإلا تفاقم الأمرُ فأضرَّ صاحبُها بنفسه وبالآخرين، كما ذكر في أكثر من موضع أن الاستشفاء منها لا يتأتى بسرعة؛ نظرًا لتوطنها وتمكنها من النفس، وعلاقتها بالطبيعة، وأنه لا بد في ذلك من إيمان، وصبر، وعزيمة، ومتابعة.
أقول: والحديث في هذا يطول، وما أوردتُه هو نموذج للمعالجة النفسية عند أحد علمائنا ومفكرينا المسلمين، وقد تحدث فيها مَن هو أكثر منه علمًا وتجربة، بأسلوب أرقى، وأجمل، وأحب إلى النفس، وهم علماء الزهد والرقاق والسلوك، ولا يخفى على القارئ أن هذا يحتاج إلى كتاب، أو كتب، المهم أن نعلم أن عندنا علومنا في هذا، وأن استيراد علاج نفسي من أطباء ومفكرين نفسيين لا يؤمنون بالإسلام، ومن ثم تطبيقه على النفوس المسلمة - هو عين الخطأ والخطورة، والله المستعان.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.