لا تكاد تجد عدداً من أعداد المجلات الثقافية والأدبية في عصرنا إلا وفيه حديث عن الإبداع، وكأنه صار غاية في حدِّ ذاته، وشيئاً لابدَّ منه، وهاجساً لدى الكتّاب، فيتكلفون في وضع كتاباتهم في هيئة (إبداعية) ولو لم يكونوا من أهل (الإبداع)، بأن يأتوا بكلام غامض، أو ينقلوا نصًّا فلسفيًّا، أو تحليلاً نفسياً لبعض "كبار" الكتاب. ويجري هذا خاصة لدى "الحداثيين"، المبتلين بالخوض في قضايا ليست من ثقافتنا، فينقلون من الغرب، ويقلدون أساليبهم، ولا يدركون جوانب الموضوع، فيتفلسفون، يعني يحومون حول الموضوع ليصلوا إليه باللفّ والجدل والدوران، ويطبقونه على التراث، أو على واقعنا وثقافتنا وبيئتنا الإسلامية...
والذي يهمني في هذا المقال أن أهمس في أذن بعض المفتونين بـ "الإبداع" من الكتّاب المسلمين، وبعضهم يقف في هذا الجانب عن حسن ظن، يعني بتطوير الثقافة الإسلامية والأدب الإسلامي وعدم التشبث بالأسلوب "الكلاسيكي" في تقديمهما للجيل المعاصر، أقول له: إن أداء الإبداع مثل كرة مطاطية أو جوفاء يُلعَب بها، فيتفنن اللاعبون في ضربها وقذفها، وهم قد يصيبون الهدف وقد لا يصيبون، فالإبداع أداء، أداء فكرة بأسلوب ما، وليس غاية في حدِّ ذاته. وقد يكون الإبداع ظرفًا، أو أسلوبًا، أو حقيقة كلامية، يمكن أن يحمل أفكاراً في موضوعات ثقافية وعلمية وأدبية وفلسفية، ويقدِّمها الكاتب للناس بهدف التأثير في نفوسهم. فنحن الآن أمام كيفية إيصال هذه الفكرة، يعني كيف نقدِّم فكرة، جديدة أو عادية، للقارئ، أو السامع، لنؤثر فيه؟ هل يكون عن طريق الإبداع، يعني بأسلوب عصري جديد حيوي متفلسف، أو عن طريق الخطاب المباشر، ويكون مقالاً رصينًا، أو حتى عاديًا مقبولاً؟
لنقل أولاً إن هذا الطرح ليس وليد اليوم، بل هو معالجة (بيانية) قديمة من أيام الجاحظ وعبدالله بن المقفع، ودينياً من أيام المحاسبي رحمه الله، فالأدباء (المبدعون) لم يكتفوا بنقل الخبر كما يفعل أهل الأخبار، مثل أبي العيناء والأصمعي وعمرو بن العلاء، بل ناقشوا وعالجوا وحلَّلوا قبل أو بعد تقديم الخبر، أو قدَّموه بأسلوب جديد. ولا يُنكَرُ هذا، مثل جهود الجاحظ في "البيان والتبيين"، كما لا تُنكَر القيمة العلمية لكتاب "عيون الأخبار" لابن قتيبة الدينوري. ولا يُغني أحدهما عن الآخر.
والمحاسبي رحمه الله قدَّم الفكرة الإسلامية بتحوير الخبر في مواعظه وحِكَمه، ولم يقدِّمها مثلما نقل الإمام أحمد وابن أبي الدنيا والزهري، من إيراد الأثر فقط وعدم التعليق عليه. وقبلهم الإمام الحسن البصري، الذي جمع بينهما فأحسن وأثَّر أبلغ الأثر.
فكلا الأسلوبين واردان، ولكلٍّ محبوه وناصروه، فبعض الناس يحبُّ قراءة الخبر كما هو بدون تحوير وتفلسف، وكثير من علماء النفس يحبذون هذا، ويرون أنه أجدى وأنفع للنفس، يعني أن يترك المجال لنفس كلِّ قارئ ليفلسف الخبر ويحوِّره من جانبه وبمكوناته الثقافية والفطرية، بينما لو وجد من يفعل له ذلك لشكَّ أو تلكأ، أو (انزعج)، لأنه لم يُعطَ فرصة التفكير بالخبر، وكأن الكاتب لا يثق بالقارئ، فيعطيه الخبر مبطنًا بفكرته وفلسفته.
ونفسيات أخرى تحبُّ الجدل والتفلسف والكلام وتتفاعل معه، وكأنها جانب فيه، ولا تقتصر على أسلوب الخبر المباشر، بل قد تراه قديماً غير مناسب للعصر، والحقُّ أن لكلٍّ طالبه كما قلت، وحتى يومنا هذا. فلا يتعصبنَّ صاحبُ مذهبٍ لمذهب، وليقدِّر نفوسَ الآخرين وإقبالهم وإعراضهم، فإن هذا يحبُّ تقديم الخبر صافياً نقياً كما هو، وآخر يحبه "إبداعياً" فيه بدع من الكلام. والهدف كما قلنا هو إيصال الفكرة، وتحقيق التوعية.
ولا يُقال أيهما أفضل، فإن هذا يُقرَأ وذاك.. والمهمُّ المضمون. وما يوصَف اليوم بالإبداع مرحلة زمانية، وسيأتي وقت تقدَّم فيه الثقافة بمسمّى أو مصطلح آخر، مثله مثل الشعر الحرّ والعامودي... ويبقى المضمون هو المهم.. في كلِّ زمان.