هذه نظرات في موضوع "الإبداع"، هي تشريح، أو تصنيف، أو ما دونهما.
وقد كانت استدراكًا على ما كتبته من مقال بعنوان "هاجس الإبداع"، فلما طال جعلته في مقال مستقل، وبقي المقال الأول ناقصًا!
الإبداع فكرة جديدة، أو تصور جديد، أو تحليل نصّ فيه طرحٌ جديد، أسلوبًا أو معنى.
وهو مثل غيره من الأفكار، متفاوت بين عادي ومبهر.
فقد تُقدَّم ظاهرة أو فكرة أدبية أو ثقافية بأسلوبين: تقليدي، وإبداعي.
أما التقليدي أو "الكلاسيكي" فهو تقديم الفكرة أو النص في نثر عادي أو بلاغي، أو في أسلوب قصصي.
والإبداعي يكون فيه زيادة كلام، بتحليل نفسي وفلسفي، وترتيب أفكار وتعضيدها بأقوال وآراء لكتّاب غربيين أو من يدور في فلكهم. وإتقان اللغة وفنونها، ودراسة علم النفس، والاطلاع على الآداب الأخرى، له تأثير في سير الإبداع.
فرؤية عجوز جالس على طاولة قديمة مغروسة في الأرض متأملاً ساكتًا، أمام كوخ خشبي قد تدلَّت خشبتان من أعلاه لتسقطا، تجلب فضول الشاعر فيصفه كما هو وكأنه جالس أمامك، أو كأنك تنظر من وراء شعره إلى لوحة فنية كبيرة ملونة.
وإذا تعرَّض له شاعر لـ"يبدع" فيه، فإنه يحوم حول نفسية العجوز، ويحلل ما يتأمل فيه وهو في هذا العمر، ويربط بين الخشبتين المتدليتين قريبتي السقوط، وبين أجله القريب أيضًا..
ولا يُنكَر أسلوب الاثنين، ولكن الأصل الأول، الذي يبقى، والآخر يتغير..
وقد يكون الإبداع في التصوير، فالتصوير العادي هو أن تقف أمام باب الدار وتعلو قليلاً لتصور البيت كله من الخارج بوضوح، والإبداع فيه أن تصوره من زاوية يبدو فيه أجمل، من خلال التركيز على ظلال وأضواء طبيعية وتركيبية، ولكن على حساب إخفاء جوانب من البيت.
فيسمَّى هذا إبداعًا في التصوير، لأنه ليس بشكل عادي. وكنا نسميه قريبًا "بشكل فني"، فصار "إبداعًا"!
ولكن هل سيُمحى التصوير "التقليدي" ويطغى الإبداعي؟
لا أظن، فإنه الأصل، وستتغير الطرق الأخرى، ويبقى هو.
ومثله يقال في الرسم، فلكل من الرسامين والفنانين التشكيليين طريقتهم في التعبير بريشتهم، بعضها لا تُفهم ولا تحبَّذ، كما لا تُفهم نصوص وأشعار.. ومع ذلك فهناك من يتفلسف أو يبالغ لأمر في نفسه فـ"يكذب" ويقول إنه إبداع. ورسّامون آخرون يرسمون لوحات طبيعية كما يعرفها كل الناس.. ولا يقال إن اللوحات الطبيعية لم يعد لها محلّ في الفن، بل هي الأصل، وستبقى، وستتغيير الطرق الفرعية الأخرى التي تسمى إبداعية في حينها، من تعبيرية وتجريدية وما إليها.
وعبثًا أُطلق على الأول مصطلح "تقليد"، فإن المرء لا يقلِّد فيه، وإنما يعبِّر عنه كما هو دون تفلسف أو تحوير، وإنما يعني به مَن أطلق عليه هذا المصطلح: الأسلوب السابق، أي: كما عبَّر به السابقون.
وأقول أيضًا: هذا هو الأصل، وسيبقى كما هو حتى بقاء الإنسان، أما ما عداه: فنظرية في الأسلوب، وتقليد بين أصحابه، وطريقة مبتكرة ستبقى مدة وستزول، مثل غيرها من النظريات، ويبقى الأصل، الذي هو التعبير العادي والطبيعي عند كل البشر، وما عداه أساليب وطرق قد يرضى عنها البعض ولا يرضى عنها آخرون، أعني قد يتذوقونها وقد لا... قد يعجبون بها أو لا.. قد يفضِّلونها أو يفضِّلون غيرها.
والإبداع في الأداء والتعبير يمكن أن نسميه "الإبداع التعبيري"، وهو جانب أو صورة من صور الإبداع، أما الفكرة الجديدة، أو الاكتشاف الجديد، فهو المعنى الحقيقي للإبداع، الذي يعني تقديم أمر جديد للقارئ لم يكن موجودًا من قبل، وهو قليل جدًا.
ولا بأس من التنويع في أساليب الكلام، بل هو مطلوب للفت النظر، ولدفع الرتابة والملل عن القارئ، ويذكر ربُّنا في القرآن الكريم أنه "صرَّف" في التذكير، يعني نوَّع في أدائه والتعبير به ليتلمَّسه الناس بطبائعهم وثقافاتهم وفهومهم المتنوعة، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [سورة الإسراء: 41] أي: لقد ذكرنا في هذا القرآن، وكرَّرنا فيه، ونوَّعنا أسلوبَ ما ندعوهُم بهِ إلى الإيمانِ والإسلام، بالحُجَج والبيِّنات، والترغيب والترهيب، والموعظة والحِكمة، ليتذكَّروا ويتَّعظوا، ويَفقَهوا ويتدبَّروا...
فيرد الحدَث الواحد أو القصة الواحدة بفنون من الأداء والتعبير.. والتعبير بأكثر من فنّ في الكلام إبداع فيه.
وقد تميَّزت عصور إسلامية بفنون من التعبير (مصطلحات أدبية أو كلامية أو بلاغية، كالسجع..) لم تكن في عصور سابقة ولا لاحقة، مثل العصر المملوكي، وآداب في العصر الأندلسي، ولم تستعمل من بعد إلا نادرًا.
وأذكر أن الكتابة في أواخر القرن الهجري الماضي استحدثت فيها سمات كتابية لم تكن موجودة في السابق، ولم تستمرَّ عند كل الناس، فكان المؤلفون والكتاب مبهورين بمصطلحات "علمية" تأتينا من الغرب دون ترجمة، أو لا يركز فيها على المعنى العربي لها، فيستخدمونها بكثرة لتدلَّ على ثقافتهم واطلاعهم ومستواهم العلمي، مثل السيكولوجيا، والسوسيولوجيا، والأنتربولوجيا...
وفنُّ الإبداع الذي يتناوله بعضهم من جانب حداثي، كان، وقد لا يكون من بعد، وهو الغالب على الظن، فإنه نظرة، واتجاه من قبل بعض الكتّاب، وسيقف ولن يعمّ.