العزلة في المصطلح الديني غير الانطواء والانطوائية المستخدمة في علم النفس، ذلك أن الذي يعتزل الناس إيثاراً لدينه، وخوفاً من الوقوع في المعاصي والمكروهات، وكفًّا لشرِّه عن الناس، غير الشخص الذي آثر الانفراد بنفسه في زوايا البيت أو المدرسة، ونظر إلى الناس نظرة ريبة وخوف، وأُصيب بالاكتئاب، وقد يكون انطواؤه لشر، كتخفّ من عمل مشين، أو تخطيط لجريمة. ويصنَّف هذا الأخير مرضًا، نفسياً أو اجتماعياً، ويعالج أصحابه.
أما الصنف الأول فليس مرضاً، وفي أصحابه خير، وقد يكون انعزالهم محمودًا كما في الفتن، ولكنهم ليسوا بأفضل من غيرهم من الاجتماعيين، فالذي يجتمع بالناس من المؤمنين ويخالطهم أفضل، وهذا ما نطق به رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام في قوله الكريم "الذي يخالطُ الناسَ ويصبرُ على أذاهم، خيٌر من الذي لا يخالطُ الناسَ ولا يصبرُ على أذاهم".
ذلك أن المعتزل يفيد نفسه وحده ولا يفيد مجتمعه، إلا في جوانب قليلة منه، ولا يقال إنه سلبي، فهو لا يشذُّ عن المسلمين في مواقفهم العامة والضرورية، فهو قد يجاهد، ويحضر الجنازة، ولا يتخلف عن الجماعة، ولا يؤذي الناس بشيء، فهو مسالم جداً، أمين، ناصح. بل يحبه الناس ويعتقدون فيه خيرًا، لأنه زاهد بعيد عن الحسد والمال والطمع، ولم يروا منه أذى وشرًا.
لكن الذي يخالط أفضل منه. ذلك أنه يفيد نفسه ويفيد الآخرين، فيدعوهم إلى الدين والفضيلة ومكارم الأخلاق، وينبههم إلى الأخطار المحدقة بهم، ويعرِّفهم أعداءهم، ويأمرهم بالخير، ويرشدهم إلى الطريق المستقيم، ويغيث الملهوف ، ويشارك في الأعمال الخيرية عامة، ويصبر على أقوالهم المنكرة، وكلماتهم الجارحة، ويجابهها بالحلم والأناة.
لكن هناك شيئاً يجمع بين العزلة والانطوائية من ناحية نفسية، ذلك أن المنعزل نتيجة هروبه من الواقع، وعدم اختلاطه بالناس على مدى شهور أو سنوات، يصيبه ضمور، أو إعاقة في العمل الاجتماعي، فلا يتعهد الأعمال كما ينبغي، ولا يكون ماهراً في العلاقات الاجتماعية والسلوكيات والعادات والأخلاق والآداب العملية، وقد يفوته الأداء التعبيري الحسن، والنطق الصحيح لمصطلحات جديدة أو متعارفة بين فئات من المجتمع، بل هو بعد سنوات من الانعزال لا ينجح في الاختلاط بالناس إذا أراد العودة إليه، فإنه قد سبح في ماء مالح، ولا يقدر العيش في العذب منه، كالأسماك، وإذا جَّرب تلكأ واختلَّ وتباطأ، ولم يعرف حاجات المجتمع وأصول التعارف والمداراة، إلا بعد زمن.
وقد عرف حكام ظالمون في عصرنا هذا ما يصيب القادة والرجال الأكفاء من الدعاة والمفكرين المسلمين من جرّاء ذلك، فأبعدوهم عن المناصب الكبرى والجهات المؤثرة في المجتمع، وحوَّلوهم إلى الحسابات والشؤون البلدية والقروية وما إليها، وقد فتر الكثير منهم بعد ذلك حقاً، وكانوا مهرة وقادة وعباقرة وكوادر عظيمة، وعوَّضه بعضهم بالفرار من هذه المجتمعات الظالمة، أو التفرغ للعلم والتأليف والبحث، أو لمهن مفيدة، وأعمال لا اجتماع فيها، كالمزارع وتربية النحل.
وعندما فُسح المجال لبعضهم للعودة لم يتمكنوا من أداء مهماتهم كما ينبغي، فقد أصابهم (الضمور) نتيجة إبعادهم عن المجتمع والتفاعل معه.
وقد تأكدت العلاقة بين الانطواء والضمور في دراسات حديثة، كما بينه الأستاذ صلاح الدين منصور، أحد رواد الأمراض العصبية والنفسية في كلية الطب بجامعة الإسكندرية (ت 1430 هـ)، فهو يقول: "وكما أن الاكتئاب يؤدي إلى ضمور الخلايا الخاصة بالمزاج العام بالمخ، فإن الانطواء والانعزال الاجتماعي اللذين يفصلان الإنسان عن العالم ويعوقان ممارسة النشاطات الحيوية الطبيعية، يؤديان أيضًا إلى ضمور تلك الخلايا، فإذا عاد ومارس الحياة بصورة طبيعية، فإن تلك الخلايا تعاود النمو والنضج والحيوية".
ولي على ما قاله آخرًا ملاحظات:
- العودة إلى الحياة بصورة طبيعية يكون للشباب غالبًا ومن أوتي فسحة من العمر قبل الشيخوخة، أما من عاش منعزلاً إلى الشيخوخة فصعب أمره... فخلايا كل شيء في الشيخ إلى الذبول، ولا يعود إليه الشباب وحيويته، وربنا سبحانه يقول: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [سورة يس: 68].
وربما كان هذا بصورة عامة، وإلا فإن هناك من الشيوخ من يتوق إلى الاجتماع بالناس، وقد يزيد في الكلام، وقد يكون اجتماعه ببعضهم ثقيلاً.
- الشاب إذا عاد من الانطواء إلى الحياة الطبيعية فيكون في برنامج اجتماعي توعوي منتظم غالبًا، فهو يحتاج إلى مران وتوجيه وخطوات متتالية.
- عودة الخلايا إلى النمو والنضج والحيوية تكون حسب طبائع الناس ومستوياتهم وتجاوبهم مع الحياة الجديدة، فقد تكون هامدة باردة، وقد تكون بطيئة النمو، وقد تكون مبادرة إلى التفاعل قوية النمو. والله أعلم.