هل تعرف نفسك؟!

هل يعقل أن يبحث إنسان عن نفسه؟

إن من المؤسف أن كثيرًا من الناس لا يعرفون أنفسهم، وفي ظنهم أنهم ليسوا بحاجة إلى البحث عنها؛ لأنها بداخلهم، وتبيت معهم، فلماذا يبحثون عنها، وإذا بحثوا فكيف؟

ولو أنهم أدركوا ما بأنفسهم لعرفوا ما يصلحها وما يشينها، ولو أنهم كانوا جادين في معرفتها لتفاعلوا مع إصلاحها، والواقع والتاريخ يشهدان بغير ذلك، فالنفوس المنحرفة أكثر من المستقيمة، فمعرفة الناس بأنفسهم إذًا قليل، أو هم على الأقلِّ غير مبالين بمعرفتها، فالكثير من الناس يشرب الخمر وهو يعرف آثارها العضوية والنفسية السيئة.

والحق أن النفس ليست شيئًا واحدًا، إنها لست بطاقة ذات لون واحد حتى يُكتفَى بالتركيز عليها، بل فيها أشياء كثيرة لا تحصى، ولا يظهر بعضها للشخص إلا بعد عمر وتجارب، واشتغال طويل بالعلم والبحث والتحري، بل إن المرء يموت ولا يعرف كل جوانب نفسه، وخالقها وحده يعرف ذلك، فإنه سبحانه يعرف أنفسنا أكثر منا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [سورة الإسراء: 25]، {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [سورة النجم: 32].

فما يجهله المرءُ عن نفسه أكثر مما يعرفه عنها!

وإن معرفته بنفسه قد لا تزيد عن معرفته بوظائف جسمه الداخلية.

فإن تركيب النفس وتنوعها في ذاتها، هو مثل عمل الأعضاء داخل جسم الإنسان والقيام بوظائفها. فالقليل من الناس يعرفون كيف يتكون حليب الأم، وكيف تعمل المعدة، أو كيف يُستخلص الدم والفيتامينات من الأطعمة لتتحول إلى قوة وحركة وحرارة في الجسم.

وكم من الناس يعرفون كيف يعمل الجهاز العصبي، والمخ، والذاكرة.. وما هي الوظائف التي يقوم بها البنكرياس، والكريات الحمراء، وكيف تتكون الخلايا وكيف تموت، وما هي الغدد وأنواعها، والقلب كيف يعمل.. والكبد.. وحاسة الشم.. والمريء، مثلاً؟

وإذا عرفوا وظيفة بعض هذه الأعضاء، فكم منهم يعرف وظيفة الأجهزة والتركيبات الدقيقة في الجسم، مثل الأذن وما فيها، كعظمة الركاب، والعصب الدماغي، والخلايا الشعرية.. والموجات الصوتية.. وفي الجسم ما لا يُرى بالعين ولا بالمجهر العادي؟ كذلك هي أغوار النفس.

كما أن معرفة الإنسان بالأمراض النفسية لا تزيد عن معرفته بالأمراض العضوية!

وقد لا يعرف الشخص منها سوى اسمها، أو بعض أعراضها، على الرغم من أنها بداخله.

والمرض النفسي ولو كان بمسمى واحد، إلا أن تطوره وعلاجه يختلف باختلاف الأشخاص، نظرًا لتنوع ظروفهم، واختلاف بيئاتهم..

إنه مثل العضو الواحد في الجسم الذي يصاب بعدة أمراض، بل جزء من العضو، كالمسام، وجذر الشعر، والشعر نفسه، والجلد، والشريان، والعضلة، والعظم.. وكلها في منطقة صغيرة واحدة..

وأمراض جلد الوجه غيرها في الرِّجل، والظهر..

وكذلك النفس بعوالمها الباطنة، وطبائع الأشخاص وبيئاتهم المتنوعة..

ولو أن عالمًا نفسانيًّا سأل شخصًا بعض الأسئلة عن نفسه لتلكأ وما عرف الإجابة عن الكثير منها.

وعلم النفس تطور كثيرًا، وصار أنواعًا عديدة، حتى دخل في العلوم الأخرى، وصار هناك علم النفس اللغوي، وعلم النفس الصناعي، وعلم نفس الإعلام، وعلم النفس العسكري.. وما إلى ذلك.

ونظريات علم النفس ليست كلها مثل بعضها البعض، وتحليلات النفسانيين للنفس وأمراضها تختلف، بحسب ثقافتهم وأمزجتهم وخلفيتهم العقدية والبيئية والتاريخية.. ومعالجة أناس عاشوا في بيئة إسلامية لا تماثل من عاش في بلد إباحي لا يعترف بالدين..

وقد عرَّفنا الله أنفسنا بما يلزمنا منها، من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة..

وصدرت دراسات وبحوث نفسية متعددة في القرآن والسنة، بحثها متخصصون في علوم الدين والنفس.. وهذا يحتاج إلى مقال آخر..

وفي نظري أن أفضل من كتب في علم النفس في تراثنا الإسلامي هو حجة الإسلام محمد بن محمد الغزالي (ت 505 هـ) رحمه الله تعالى، في كتب متنوعة له، وخاصة "الإحياء".

ويحسن أن أشير هنا إلى أن ثلة من العلماء المعاصرين أبحروا في تراثنا واستخرجوا منه علوم النفس التي بحث فيها علماء السلف، وصدرت جهودهم في كتاب "علم النفس في التراث الإسلامي" طبعته دار السلام بالقاهرة في ثلاثة أجزاء.

ومن المفيد أن نستخلص في هذا الجانب أن هناك نفوسًا مؤمنة نقية تستجيب للحق، وترعى العدل، وتأبى الظلم، وتحب الأخلاق الحميدة..

وأخرى كافرة فاجرة مظلمة، تحب الشر، وتنشر الفساد والجريمة، وتحارب الفضيلة..

ليكون الإنسان السويُّ على حذر، ويعرف بمن يثق، وبمن لا يثق، إذا أراد الاستقامة في الحياة.

والمسلم لا يلتفت إلى نظريات النفس إذا كانت مخالفة للدين، بل يأخذ علمه وثقافته النفسية من أهل العلم والدين، الذين يعتمدون على المصادر الإسلامية، وليس على الأفكار الغربية الموبوءة، المغلَّفة بثقافتها الخاصة، البعيدة عن ديننا وآدابنا الإسلامية.