اللامبالاة مرض

اللامبالاة من أبغض الأخلاق الاجتماعية.

إنها تعني الفوضى وعدم الاهتمام، وتعني الكسل، وتعني الأنانية، وتعني هدر الحقوق، وباختصار تعني "اللاحضارة" و"اللاالتزام".

 وبينه وبين "اللامسؤولية" عموم وخصوص.

وقد تحدَّث الناس عن الثقلاء وعن البخلاء كأمراض اجتماعية غير مقبولة في المجتمع، ولكن خلطوا مع ذلك الهزل والطرفة، ولا أعرف أحداً خصَّ خُلق اللامبالاة بكتاب، مع أنه يستحقُّ ذلك وأكثر، على ألاّ يكون ذلك من باب الطرفة والنكتة، وفي مجتمعاتنا كثيرون من أمثال هؤلاء، ولو تتبعت أخبارهم وآثارهم منذ أن التقيت بهم وعددت جوانب لامبالاتهم وضررهم على المجتمع، لأتى ذلك في كتاب مهم، فإنه مرض فتّاك حقاً، وعنوان ضخم من عناوين التخلف، وهذا الضرر يتبيَّن في جوانب الحياة كلها، بحسب مواقع اللامبالين في المناصب المتعددة والمختلفة التي اعتلوها في الدولة والمجتمع.

وأعلاها إذا كان الحاكم الكبير واحداً منهم، فيهتمُّ بمنصبه، ويعدُّ الرجال من حوله كما يريد هو، ويغدق عليهم المال، ويفتح لهم مجال الشهوات، ويقسم تركة بيت المال بين السلطة والشعب، بما يسد جوعة هؤلاء أو لا يسدُّ، ثم لا يسأل عنهم ولا يبالي بمشكلاتهم وآمالهم وآلامهم في الحياة، وقد يغادر الملايين أو مئات الألوف من شعبه إلى الخارج لأنهم لا يجدون ما يعملون ولا ما يأكلون، وهو مشغول بتعزيز منصبه ونشر عساكره وعناصر "أمنه" وأكل أموال شعبه، أو توفيرها لرجال سلطته، وليمت الشعب في أوحال الفقر والجهل والمرض!

والوزير مثل سيِّده... مهتم بالأسفار واللقاءات، ويعطي الأوامر بالاجتماعات ورفع التقارير...

وهي منظومة روتينية لا تنتهي، ويخلو فيها أحياناً كثيرة الشعور بالمسؤولية أمام الله تعالى.

وإذا طرقنا باب المسؤولين المباشرين الملتصقين بالشعب، والأفراد المعينين في الوظائف لتنفيذ الأعمال، في المؤسسات الحكومية والأهلية، لرأينا أن تبعية كبرى تقع على عاتقهم. وهؤلاء تتبيَّن أخلاقهم المهنية والاجتماعية في استقبال الجمهور والتعاون معهم أو إهمال شؤونهم ومعاملاتهم.

وهؤلاء متفاوتون، فبعضهم جدير بعمله، وصل إليه بعد شهادة وخبرة وأمانة، ولكنه قد لا يُعطَى حقَّه المالي، أو لا يُقدَّر منصبه، أو يطلب منه المسؤولون تنفيذ أعمال لا يقبلها دينه وضميره.

وآخرون وصلوا إلى هذه المناصب بالمال أو الواسطة أو الحزبية، وما إليها، فيكون هذا وبالاً على الأمة، وجاثماً على صدورهم غصباً عنهم! وهو بهذا لا يبالي بشؤون الناس، ولا يدقِّق أوراقه ولا يرتِّبها، ويريد أن يتخلَّص من تبعاتِ المواطنين بإظهار أعذار يمنع تنفيذها، ويحوِّلهم إلى فروع وأقسام لا صحة لها. وهو لا يحضر في مواعيد العمل كلها، فله علاقات أخرى... كما يعطي مواعيد غير حقيقية، ولا يتقيد بها.

وإذا لم تكن له علاقة بالجمهور بطبيعة عمله، استأنس بصديق أو صديقة أو أمور دنيوية تافهة أكثر من العمل المطلوب منه، فلا يعمل إلا القليل، أو هو يعمل ولكن لا يتقن، ولا يوزع تبعة أعماله على الأقسام الأخرى في مواعيدها كما يطلب منه، فيُبحث عن معاملات المراجعين حتى تصل إليه... وقد تُرَى في دروج مهملة، أو يُعثَر عليها بين أوراق غير نظامية! وبعضها لا يُعثَر على أثرٍ لها.

 وإذا جئنا إلى العامة رأينا عند كثير منهم ما يوافق هذه العادات والآداب المشينة بما يناسب وضعهم...

في تجمعات الناس في المناسبات الاجتماعية والثقافية والرياضية، وعند أصحاب المحلات أو العاملين فيها، وفي مواقف السيارات، وفي المزارع وحظائر الحيوانات...

وفي البيت تبدو آثار اللامبالاة إذا تركت الأم شؤون المنزل والأولاد للخادمة الغريبة، التي تشعر أن البيت ليس بيتها، وأن الأولاد ليسوا أولادها... وتكون النتيجة الفوضى، واللاتربية، واللاأدب...

وما تقول في الذي يترك صنابير المياه مفتوحة في بيته، في أوقات طويلة، وأحيانًا من المساء حتى الصباح، أو لا يغلقها جيداً، أو يفتحها على آخرها عند استعمالها، سواء بفعله، أو بعدم تنبيه أهله وأولاده إلى ذلك؟

وما تقول في الذي لا يحلو له الكلام أو معانقة صاحبه أو لبس نعله إلا عند الأبواب، وخاصة أبواب المساجد، حيث يدخل أو يخرج منه المصلون بالعشرات.

وما تقول في المؤذِّن الكسول اللامبالي، الذي لا يتنبَّه إلى أوقات الصلوات إلا عندما يسمع الأذان من مساجد أخرى، ولذلك تسمع صوته في أكثر الأحيان بعد المؤذِّنين كلهم. وبعضهم يكون في المسجد، ويعلم دخول الوقت، ولكنه يشغل نفسه بالجوَّال، أو لا يقطع حديثه مع آخر عنده!! ولا يهمه أمر إخوانه الذين قد تجد بعضهم صائمًا ينتظر الأذان بالثانية والدقيقة، والعجائز والمرضى الذين ينتظرون وقت الأذان ليؤدُّوا الفريضة في أول الوقت لأعذارٍ لهم...

وما تقول في الذي يوقف سيارته على المدخل اليمين من الشارع فيحرم السيارات أن تدخل منه، ويبقى أصحابها هكذا ينتظرون حتى تضيء الإشارة الخضراء أمام حضرة ذلك اللامبالي!

وقس على ذلك شؤونًا وأحوالاً.

إنها أمور كثيرة تفصل الإنسان عن عمله الحقيقي، لأنه لم يتربَّ على المسؤولية، ولم يتربَّ على الخوف والخشية من الله، ولم يُتابَع في عمله ويُنبَّه إلى أنه إذا لم يفعل كذا فإن أخاً له يتضرَّر به، وأن الله سيحاسبه لأنه لم ينفِّذ عمله كما ينبغي...

وإن المجتمع... والوطن كلَّه يتضرَّر من هذا المتكاسل اللامبالي، الذي يهمل الأعمال أو يؤخرها، فتهمُّه نفسه وراحتها، ولا يهمُّه إخوانه وتدبير شؤونهم وتسهيل أمورهم، كما لا يهمه أحوال التمدُّن والحضارة والتقدُّم في بلده، فبأمثاله تنحطُّ الأمور، وتتخلَّف الدواوين والمكاتب، ويتضجَّر الناس ويتأففون، ويدعون عليه وعلى أمثاله، والله المحاسِب يوم الدين.

وإن القضاء على هذه الآفة الاجتماعية والمهنية تكون بالتربية الإسلامية المرحلية الشاملة، أعني الفردية والأسرية والاجتماعية والوطنية، ويُنَشَّأ الطفل على الالتزام، ولا يسامح إذا لم يُبالِ مرات، حتى لا يكون ذلك له عادة، وتقام دورات متتالية للموظفين داخل الدوائر وخارجها لتذكيرهم بسوء عاقبة اللامبالاة، وأنهم محاسبون على تقصيرهم...