عندما ينحرف القطار عن مساره يُصابُ الركاب، فيُجرَح الكثير منهم أو يموتون، حسب (الوقعة) التي وقع فيها القطار، فإذا كان مسرعًا وبه عدد كبير من الركاب كانت المصيبة أكبر، وإذا كانت أقلَّ كان أقلّ.
وهكذا الثقافة إذا انحرفت عن مسارها الصحيح، وخاضت في أوحال الهوى والمصالح، وانزلقت في مزالق العصبية والقبلية والطائفية، واتسمت بالشحناء والتباغض، ولبست لباس الغرباء، وجهرت بالعيب والفحشاء، وفرضت نفسها بكل عيوبها على بيئة لا تؤمن بها ولا تناسبها، عندئذ تكون الكارثة قد حلَّت بالمجتمعات، وتصادمت فيها النفوس بأمزجتها المختلفة، بين مؤيد لها لمصلحة، ومجاف لها لمبدأ، فتتضارب الأفكار، وتختلف النفوس، ويشتعل الصراع ... هذا بدل تجييش المفكرين والمثقفين للانتصار للحق الذي يتفق عليه المجتمع في بيئة مسلمة، تناسب جميع فئات المجتمع وتتفق عليها، تناسبها وتدافع عنها، وتؤلِّف المجتمع في نسيج واحد، ووحدة متكاملة، وتكون بذلك عونًا للحاكم الصالح، وللمحكوم الذي لم تُصادر عقيدته، ولم توْأد كرامته، ولم تُهدَر ثقافته.
وأكثر ما يضرُّ المجتمع هو الثقافات الحزبية الضيقة، فكل حزب يريد أن يفرض رؤاه وثقافته على الآخرين في الوطن كله، بوسائله الإعلامية المختلفة، ومن خلال التربية الحزبية لأعضائه، على الرغم من أنها نتاج أفكار شخصية، بل عدة أشخاص، هم الأعضاء المؤسسون للحزب، وكل حزب يخالف الآخر!
كان بومدين يقول بكل صراحة إنه يطبق الاشتراكية في البلاد بدون رضا شعبه! فماذا كانت النتيجة في الجزائر الحبيبة؟
وفرض القذافي كتابه "الأخضر"، وأنفق على طبعه وترجمته وتوزيعه في أنحاء العالم أمولاً لا تحصى، وأمر بتلاوته أو دراسته في اللجان والمدارس والجامعات، ووجد من يساعده ويحلِّل "نظرياته" في طبقات مثقفة عالية! ولكن ما مصير كتابه بعد أن رُفعت يدُ السلطة القوية عنه؟ لقد كان قناعات شخصية، وثقافة خاصة، أراد شخص أن يفرضها بقوة على الآخرين، ولو لم تناسب دينهم وبيئتهم.
وانتشرت أفكار حزب البعث (القومي الاشتراكي) في بلاد الشام والعراق خاصة، فمكر بأهلها، وخرَّب ضمائر الكثيرين منهم، وجعل البلاد ثكنات حزبية لا يعترف بغير ثقافتها التي تُفرَضُ على الجميع... فماذا حلَّ بسورية والعراق خلال أربعين عامًا من حكم البعث وثقافته؟
وفي عدن، حيث طبق (الرفاق) الأفكار الماركسية، والمبادئ الشيوعية؛ بهدف إزاحة تاريخ وثقافة إسلامية على مدى قرون. فماذا كانت النتيجة؟ وما مآل تلك الثقافة المفروضة بغير رضا أهلها؟
والنفوس عجيبة، تستجيب للحق وللباطل، يعني أن بعضها تتآلف مع الثقافات المنحرفة وتمتزج معها، كما تتآلف النفوس الطيبة مع الثقافات الصحيحة، وما زال هناك أنصار لمحمود محمد طه الذي ادَّعى النبوة في السودان وقُتل مرتدًا! وقد تابعه مثقفون وأصحاب شهادات عليا وأساتذة جامعات في الاقتصاد!!
ولم تخلُ الساحة الإسلامية من صراع الثقافات، ومن المؤسف أن تجد بعض من تشبَّع بثقافات غربية وحزبية، وإسلامية هزيلة، أن ينفرد بأفكار يلصقها بالإسلام، ويحشد لها نصوصًا ويتوسَّع في تأويلها، ويقول إن دعوته "إسلامية"، فصار كلٌّ يعَضُّ من الإسلام عضَّة، حتى صار جسدُ الإسلام جريحًا، ونتج عن ذلك تصارع أحزاب إسلامية!
ولكن هذه الأفكار والاجتهادات الخاصة لن تعمَّر، وإن وجدت آذانًا تسمع حالاً.
فقد فرض الخليفة المأمون ثقافة الاعتزال على المسلمين، ودعا خليفته المعتصم إلى القول بخلق القرآن، وسجن أحد أئمة المسلمين الكبار لأجل ذلك. ولكن ما نتيجة هذه الثقافة، وما مآل أصحابها؟ لقد كادت أن تنمحي لولا انتشار بعض علمائها في بلدان، وانتهى الإمام الممتحن في هذا (أحمد بن حنبل) إلى أن المتوكل ابن المعتصم كان يكرمه ولا يولِّي أحدًا إلا بمشورته!
إنه صورة من صور الثبات على الحق، ونبذ للثقافة الباطلة، البعيدة عن معتقد المسلمين.
إن تبعة الثقافة وتوجيهها أمانة ومسؤولية، لا يستقيم فيها إلا من أسلم وجهته لله، وكتب بنفس صافية لا تريد إلا الخير والصلاح للمسلمين وبلادهم، ولن يستقيم أمرها مادامت مستوردة، وغير مناسبة لمعتقد المسلمين، وإن خرَّبت نفوسًا قلقة، أو خاوية، أو ضعيفة، أو فاسدة.