لم يرضَ القادة في مصر بحكم الإسلام.
ولذلك اجتمعوا على إسقاطه قبل أن يتمكن منه أهله.
وسبب وقوفهم ضدَّ نفوذ الإسلام في الدولة هو انحرافهم الفكري، والتربية الثقافية المعوجَّة التي نشأوا عليها، مدنيًا وعسكريًا؛ ولذلك لم يتحمَّلوا إقامة الحقِّ بينهم. ويُفهم من هذا أنهم غير راضين عن الإسلام، أو هم على الأقل غير راضين عن الاحتكام إليه، أو عن حملته والداعين إلى تطبيقه.
ومن يقرأ كتاب "تهويد عقل مصر: قبل أن تفكر مصر بعقل صهيوني أمريكي" يعلم مدى تغلغل الأخطبوط الأمريكي والإسرائيلي في المجتمع المصري، حتى في المجال العلمي، حيث تبعية جامعات ومراكز بحث مصرية للمؤسسة الأكاديمية الأمريكية، واستخدام وكالة الاستخبارات الأمريكية والموساد الغطاء الأكاديمي في مجالات "التجسس العلمي" في إطار التوظيف السياسي للبحوث العلمية المشتركة لخدمة أهداف أمريكا والكيان الصهيوني.. فكيف بغيره من المجالات!
والتربص بمصر وأهلها والتدخل في شؤونها من قبل الدول الأجنبية القوية وأصحاب النفوذ المنحرفين ظهر منذ الحملة الفرنسية عليها، ومنذ محاولات القضاء على الخلافة العثمانية، وكان التركيز في ذلك على القادة الكبار والمؤثرين وذوي النفوذ من أهل الإدارة والثقافة والدبلوماسية والجيش، وقد اجتمع على هذا التأثير: الاحتلال، والاستشراق، والتنصير، والبعثات، والامتيازات الأجنبية، والإعلام، بإعلاء شأن المدنية الغربية، والتركيز على تفريغ مصر من مصدر قوتها ووحدتها وتماسكها، وهو الإسلام، وإثارة الشبهات حوله لأجل ذلك، وفرض القوانين الوضعية في مصر فرضًا، في ظروف مختلفة.
وبدا ذلك من تصرفات محمد علي باشا (الكبير) أولاً، الذي يعتبره كثير من مؤرخي مصر رجل النهضة الأول في مصر، نظرًا لإحداثه أدوات جديدة في الحكم، ولتعاونه مع الأجانب في النواحي الثقافية والعلمية وغيرها. وكان منحرفًا فكريًا، غير صادق مع أهل مصر، وعندما سمع بكتاب مكيافللي في السياسة "الأمير" (وفيه الغاية التي تبرر الوسيلة) طلب ترجمته ليستفيد منه في سلطانه، ولكنه لما قُرئ عليه طلب الكفَّ عن إتمامه، وقال: "إني أملك من الحيل ما لا يعلمه هذا المؤلف"! يعني أنه يملك من الحيل والمكائد والطرق الملتوية للوصول إلى أهدافه أكثر مما طرحه هذا الكاتب في كتابه، الذي انتشر واقتناه القادة وأصحاب النفوذ للاستفادة منه لبسط سيطرتهم على الناس.
ويعرف من هذا أنه يريد بذلك الابتعاد عن الإسلام أصلاً، القائمة أحكامه على الصدق والإخلاص والعدل، والبحث عن البديل الذي يناسب أهدافه وطرقه الملتوية للالتفاف على هذه الأحكام، وعلى الشعب الذي يدين بها، لأجل أن ينحرفوا هم أيضًا، وينشأوا على هذه الانحرافات بعد أن تتمكن منهم.
وتبعه على هذا أولاده حكام مصر من الخديويات والباشاوات والأمراء، فكانوا متعاونين مع بريطانيا المحتلة، لأجل تثبيت حكمهم، ولو أدَّى ذلك إلى التخلي عن الإسلام شيئًا فشيئًا.
ولما اقترب استقلال مصر عن المحتل الإنجليزي، كان قد فتك بعقول مفكرين بارزين منهم، وهيَّأها للحكم، وأهم صفة فيها التزامها الجانب العلماني وبعدها عن الإسلام، وقد ذكر حاكم مصر (كرومر) في تقاريره السنوية أثناءها أنه يعدُّ جيلاً جديدًا من الشباب المصري المتفرنج المعجب بالغرب ويقبل العمل مع بريطانيا. وكان أبرز الوطنيين الذين قدَّمهم الإنجليز للشعب هما لطفي السيد وسعد زغلول، اللذين مازالا حتى الآن يمجَّدان من قبل الحكومات المصرية المتعاقبة، وقد عيَّن كرومر سعد زغلول وزيرًا للمعارف لأنه كان منحرف الفكر متعاونًا مع الإنجليز، تمامًا كما عيَّن جمال عبدالناصر طه حسين وزيرًا للمعارف لأنه كان منحرف الفكر متعاونًا مع الغرب إلى أقصى درجة، حتى الكتابة من الشمال إلى اليمين!! وليستمرَّ الانحراف عن الإسلام عن طريق المدارس والمعاهد والجامعات والمراكز الثقافية، التي تحتضن أكبر وأهم العقول المؤثرة في المجتمع! ولم يتغيَّر الأمر في هذا حتى الآن!
وكما يقول الأستاذ أنو الجندي في كتابه "الشبهات والأخطاء الشائعة" ص 246: "كان لطفي السيد وجماعة الجريدة وحزب الأمة غير صادقين في الدعوة إلى "مصر للمصريين"، فقد كانوا باعترافهم على ولاء مع النفوذ البريطاني في مصر، وكانوا حيث سماهم كرومر: (الذين التقوا بالإنجليز في منتصف الطريق)، وهم بدائل الاستعمار وخلفاؤه (لطفي السيد وسعد زغلول وعبدالعزيز فهمي)، وغيرهم هم تلاميذ مدرسة كرومر التي قامت على أساس فلسفته التي رسمها في تقاريره السنوية".
ولما تسلم "سعد زغلول" رئاسة الوزراء، استبشر أهل مصر خيرًا، لأنه مصري.
ولكنه كان منحرفًا فكريًا، ومرتبطًا بفكر المحتل، وما كان أمر الإسلام يشغل مساحة من فكره، بل بدأ صديقًا للإنجليز وانتهى كذلك. وهو يفصح عن هذا في مذكراته بقوله إن كرومر كان يجلس معه الساعة والساعتين "كي أتنور منها في حياتي السياسية"! وقد رأس الوزارة ومصر تحت نير المحتل. وكان معجبًا بكرومر إلى أقصى درجات الإعجاب، حيث قال عنه في مذكراته للذين انتقدوه: "صفاته قد اتفق الكل على كمالها"!!
وعندما خرج كرومر من مصر _ بعد ربع قرن من الحكم الحقيقي فيها -لم يمدح سوى رجل واحد، هو سعد زغلول، الذي مازالت الحكومات المصرية المتعاقبة تعتبره أبرز الوطنيين المخلصين الغيورين فيها!!
ولم تفده صراحته في صداقة كرومر.. وأنه كان مقامرًا مدمنًا، حتى قال في مذكراته "... حتى خسرت فيه صحة وقوة ومالاً وثروة"!
ولما حارب الإخوان المسلمون القوانين الوضعية، وخاف الحكام والغرب من عودة الإسلام إليها، فتكوا بهم، وحلُّوا جمعيتهم، وصادروا صحفهم، وقتلوا زعيمهم.
وامتدَّت السياسة نفسها مع الإسلام والمسلمين في مصر على هذا المنوال، وإن تغيَّرت بعض الأساليب والنظريات في عهد عبدالناصر والسادات، فقد نادى الأول بالاشتراكية، وكرَّس الحياة الحزبية، والقومية والعنصرية، ودولة المخابرات، وفتك بالإخوان وجهودهم الرامية إلى عودة السيادة الإسلامية إلى أرض الكنانة، فتك بهم كما في العهد الملكي...
لقد انحرف القادة في مصر عن الإسلام كما خطَّط لهم المحتل ومن شايعهم... وبقوا مخلصين لخططهم..
ولما جاء طوفان الثورة على حكومة حسني مبارك، بل على الحكومات السابقة كلها، نجح الإسلاميون في الانتخابات وفازوا بالحكم... فكان ذلك حسرة في قلوب العلمانيين والليبراليين، وغصة في حلوقهم، وعرفوا أن لا مجال لهم في الحكم بالانتخابات والكلمة النزيهة والعمل الشريف.. فلجأوا إلى القوة العسكرية، التي تجذَّر الانحراف الفكري في قادتها كما في القادة المدنيين.. فعزلوهم بالقوة..
ويا ويح مصر من هذا..
ويا ويحها إذا أصرَّت على الانحراف عن الإسلام..
فإنه لا عزَّة لها إلا به..
وستبقى في دائرة الاحتلال والتخلف مادامت مصرَّة على سيادة المنحرفين على أرضها وشعبها.
والعزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين.