كلمات في الثورة

إنها باختصار ثورة على: الظلم، والعنصرية، والفقر، والبطالة، والتخلف، والذل..

هكذا رأى المواطن السوري نفسه منذ نحو أربعين عاماً، حينما قام وزير الدفاع (حافظ الأسد، وهو من الطائفة العلوية) بانقلاب عسكري، وسماه (الحركة التصحيحية) بزعم أن رجال حزب البعث قد انحرفوا، وأنه جاء ليصحح المسار! وكانوا منحرفين حقاً، ولكنه جاء فانحرف أكثر، فقد كان الحزب وحده مسلطاً على رقاب الشعب، فجاء هو وجعل السلطة ومقاليد الحكم بيد طائفته ذات النسبة القليلة في سوريا، وبيد المخابرات، وبيد البعث، وجعل الاقتصاد، والسياسة، والإعلام كله على هذا النحو العنصري. وقد عرف الإخوان المسلمون هذا التوجه من الحكومة الجديدة منذ بدايتها، فلم يقبلوا، وعارضوا جهاراً، وبقوة، فنكل بهم وبقادتهم والدعاة المخلصين، فقتل عشرات الألوف أو مئاتها منهم، معظمهم من مدينة أبي الفداء حماة، إضافة إلى سجن الآلاف أو عشرات الألوف كذلك، وتسليط العذاب عليهم، وتشريد عشرات الألوف الآخرين الذين انتشروا في أطراف الأرض، ومن بقي منهم كان مراقباً، ومشلولاً لا يستطيع حراكاً. ولم يساعدهم أحد من (حركات المعارضة)، الذين كانوا قلة أصلاً، ماعدا الأكراد، أصحاب توجه خاص في المعارضة. وبعدها تحكم في السلطة أكثر، وزاد من "درجة" قانون الطوارئ، ولم يرفعه طوال مدة حكمه، ليبقى كل شيء بيد الطائفة والمخابرات. وصار أهل سورية في أسوأ حال، وانتشر الفساد في كل أجهزة الدولة وبدون استثناء، حتى في الجيش، وأثري أصحاب السلطة وأتخموا، وصاروا أصحاب الملايين والمليارات، يأكلون مؤونة المساكين، ويشربون عصائرهم، ويسرقون مواردهم، ويستأثرون حتى بعلف حيواناتهم! ومع كل هذا يظلمونهم، ولا ييسرون معاملاتهم في الدوائر الحكومية إلا إذا دفعوا الرشاوي، ومعظمهم لا يجد عملاً إلا أدناه، في شقاء وكد وتعب، وإذا وجده أنفق قسمًا منه في الرشاوي، ومنهم من لا يجد مالاً ليرحل إلى دول أخرى فيعمل.

 أما الأكراد فشأنهم أصعب وأعقد، فالآلاف منهم محرومون من حقوقهم المدنية حرماناً تاماً، حيث لا هوية لهم، فلا يسمح لهم بالعمل في دوائر حكومية، ولا يعطون أرضاً يعيشون منها، ولا يقدرون على الخروج من البلد لأنهم لا يعطون جواز سفر،.. وليتفكر المرء بحال آلاف العائلات المسكينة المكتوية بنار البعث والسلطة على هذا المنوال.

ومع كل هذا الظلم فإن الشعب كان يتعرَّض لأقسى أنواع الظلم السياسي والحرمان حتى في الحقوق الشخصية، فلا حرية لأي مواطن، إلا في إطار السلطة والبعث، والمخابرات تتدخل حتى في مسائل الزواج والطلاق!! والويل لمن يعارض أو لا يسمع، فالسجون مهيأة لكل حرٍّ أبيّ يجهر بالحق، والظلم والعنصرية تباع في كل دائرة (مجاناً)، ولا سلام على الشعب! ولا قيمة له ولا اعتبار.. والانتخابات كلها مزيفة مائة بالمائة، ومجلس الشعب هو مجلس السلطة والبعث والمخابرات، فالعناصر منتقاة...

وورث الابن من أبيه الحكم، وسلك خطاه في هذا كله، وزاد الطين بلة بأن فتح يد إيران والشيعة على أهل البلد من السنة، فصارت الكلمة لهم، والقوة بيدهم..

وما كان الشعب قادراً على إسماع نبضات قلبه الضعيفة ورفعها إلى مستوى الهتاف والثورة، فبقي كاتماً أنفاسه، غائظاً حانقاً، كله حقد ورفض وكراهية وحنق على هذا الوضع المأساوي الذي لا يطاق.

ولما انطلقت ثورات عربية ضد الأنظمة الدكتاتورية والعنصرية والفساد، في تونس ومصر وليبيا واليمن، كانت الأرضية جاهزة لتشتعل في سوريا الأبية، فنقاط النزف متوافرة، والوقود منسكب على أرضها.. فقط احتاجوا إلى عود ثقاب من شجاع أبي، لينقل وهج الاشتعال من منطقة إلى أخرى.

فكانت البداية من حوران الحرة، بلد الإمام النووي، الذي أرغمه الظاهر بيبرس على مغادرة دمشق عندما لم يوافقه في مظلمة لأهل دمشق، وأبى أن يعود إليها بطلب منه ما دام فيها، حتى يموت.. ومات بعد مدة قليلة.. فعاد!

وهكذا كان الشعب، الذي أبى أن يضيِّع ثورته، وهو يعلم أنه يستحيل أن يستقيم الظلُّ والعودُ أعوج، وهؤلاء لحاكمون طغاة متجبرون ظالمون وعتاة مستكبرون، لا يمكن لهم أن يقودوا مبادئ العدالة، ويعيدوا للمواطن عزته وهم الذين أذلوه، وأذاقوه مرَّ العيش، وظلمات السجون، والقهر والتعذيب، والذل وسوء السمعة بين الأمم.

ورفعت الحكومة قانون الطوارئ، وسمحوا في قانون جديد بالمظاهرات السلمية، وبعودة المغتربين، ولكن بدا من ممارساتهم العملية مع الشعب كذبهم عليه، فقد قتلوا المئات من المتظاهرين العزَّل في مظاهراتهم السلمية، وفتحوا السجون بأبوابها العريضة ليرموا فيها الأحرار الأبطال من الشباب خاصة الذين ثاروا على: الظلم، والعنصرية، والفقر، والبطالة، والتخلف، والذل.

وتنفَّس الشعب الصعداء، وصار يردِّد هتافات الحرية ويسمعها العالم كله، وشعر معه مئات الألوف بل ملايينهم المغتربين بالعزِّ والفخار، وأنهم جميعاً مثل غيرهم يحبون العيش الكريم، والعدالة، والحق، والرفعة، والتقدم، والحضارة، وأنه لا علاقة لهم بمبادئ وتصرفات من تسلط عليهم.

إنها الثورة حتى النصر إن شاء الله.

والعزة لله.

والله أكبر.

(كتب في أوائل انطلاق الثورة السورية 1432 هـ، 2011 م)