من عجائب الشأن الأكاديمي أنه لا يمنح الشهادات العالية لمن يُنشئ ديوان شعر، مهما كان عاليًا ومتميزًا أدبيًا وفنيًا!
ولو كان أمير الشعراء أحمد شوقي حيًا لما أُعطي شهادة دكتوراه على أيّ من دواوينه، أو حتى مجموعها، ولا لامرئ القيس، أو المتنبي، ولكن قد يُتصدَّقُ عليهم بشهادات (فخرية)!
وكذا القصص، والمسرحيات، وما يسمى بالأعمال الإبداعية، ولو كانت عالمية، ونال أصحابها جوائز كبيرة، نوبل أو غيرها.
ولا نضرب المثل بالجاحظ وعبدالله بن المقفع وابن قتيبة الدينوري وأمثالهم، فهؤلاء المساكين لو قدِّمت أوراقهم إلى مدير شؤون التسجيل لرفض النظر فيها أصلاً، وطلب الأصل أو الصورة المصدَّقة من شهاداته السابقة... وإلا أُقلعوا بسلام!
ومَن كتب ناقدًا ودارسًا للشعر مُنِحَها، ولو لم يكن قادرًا على نظم بيتِ شعرٍ واحد!
وقد حُصٍّلت آلاف شهاداتِ الدكتوراه في دراسة الأشعار، ولا أعرف شاعرًا مُنح شهادةً نظاميةً على شعره! ولا قاصًّا أو مسرحيًا.
فالأصلُ لا يُمنح، والفرعُ يُمنح!
الينبوعُ لا يُمنح، والساقيةُ تُمنح!!
وليس الأمر مقصورًا على حجب الشهادات عن الأعمالِ الإنشائية والرومانسية وحدها، فإن الباحث لا بدَّ أن يكتب رسالته بالأسلوب الأكاديمي المعروف الذي يقدِّمه طلبة الماجستير والدكتوراه، وكما يقدِّم الأساتذة المساعدون بحوثهم للترقية إلى أساتذة مشاركين.
وبهذه الشروط لا أظنُّ أن الحافظ ابنَ حجر العسقلاني لو قدَّم كتابهُ المشهور "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لنالَ به شهادة علمية، لا لشيء سوى لأنه لم يتبع الأسلوبَ الأكاديمي!!
مع أنه استفادَ من كتابه هذا استفادة مؤكدة ملايين المسلمين على مدى ستة قرون أو أكثر!
وتقاسمه طلبة الدراسات العليا في الجامعات الإسلامية، وحصَّلوا من دراسة هذا الكتاب وغيره من كتبه مئات شهادات الماجستير والدكتوراه، ولا يتجاوز عملهم فيها سوى التخريج والتوثيق من الكتب، والحكم على بعض الأحاديث، وشيء من الدراسة، يعني مما لا يساوي سوى جزء قليل من قيمة الأصل.
ولا تمنح الشهادات العالية أيضًا لكتابة التراجم، ولو كانت موثقة توثيقًا علميًا! إلا أن تكون دراسة للشخص مع أعماله العلمية أو الأدبية.
وأعني لو أن الإمام الذهبي قدَّم كتابه "سير أعلام النبلاء" إلى قسم التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية لرفض!
ولو ضربتُ الأمثالَ بالكتب التراثية الرائعة في قيمتها العلمية ورفضها أكاديميًا، لتجاوزت الأرقام الظنية!
ثم إني عاشرتُ أكاديميين قبل أن يحصِّلوا الشهادة وبعدها، فرأيت نفوسهم متغيرة، وفي بعضهم شيء من الأنفة والتكبر، وينظرون بازدراء إلى أعمال الكتّاب والمؤلفين ما لم تكن مكتوبة بالأسلوب الأكاديمي، ولو كانت الكتابة مشوقة ومفيدة والكتاب واسع الانتشار، بينما أسلوبهم فيه شيء من الجفاف بما ينفر القارئ ولا يشجعه على المضي في القراءة، وكأنهم يكتبون للطبقة المثقفة العالية فقط، أما الجمهور العام فلا يهمهم أمره، إنْ قرأوا أو رفضوا!
والنظرُ إلى المعنى والفائدة والأسلوب هو الأهم، وليعتبر القارئ والباحث بأسلوب القرآنِ الكريم، الذي لا يقال له أسلوب أكاديمي أبدًا، وكذلك أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الخطاب والإرشاد وحتى التشريع، الذي فيه إنشاء كثير، والوعظ والنصيحة في الكتاب والسنة كثير، والفائدةُ منهما أرقى وآكدُ من كل كتاب على وجه الأرض!
فالمهم الفائدة، والمعالجة الناجحة، والاستفادة..
ولا يُنكر توجيه الطالب إلى الأسلوب العلمي، والبحث الرصين في الكتابة، والعمق في المعالجة، وترتيب الأفكار وما إلى ذلك، ولكن لا يكون المرء عبدًا للأفكار والنظريات الغربية الوافدة، التي تقتصر على النظرة الموضوعية والمادية وحدها في البحث وأسلوبه... وليكن عند المسلمين مناهج بحث تناسب دينهم، الذي هو عصمة أمرهم. وليستفيدوا من مناهج علمائنا الكبار الذين نجحوا في تآليفهم، وبنيت الحضارة الإسلامية العظيمة بجهودهم الدينية والعلمية، فنحن أصحاب العلم، وآباؤه وأجداده... وللحديث شجون.