الهواية... زينة

مما استأثر باهتمامي في الحياة الاجتماعية ما رأيته من انغماس أفراد في أعمالهم إلى درجة لا تصدَّق! وليس المقصود عملاً معيَّناً، بل أعمال كثيرة، قد تكون صغيرة تافهة، وقد تكون في تخصص عال ونادر!

وهذا ما يلاحظه الناس كلهم تقريباً، ففي الدوائر الحكومية والمؤسسات الأهلية والمراكز العلمية والنوادي الرياضية والمصانع المتنوعة والجامعات المختلفة والمكتبات والمطارات والفنادق والمطاعم والأسواق والمستشفيات... أشخاص كثيرون يقومون بمهام لا يقدر عليها غيرهم، ولا يصبرون على ممارستها دقائق أو ساعات، بينما يعمل فيها أصحابها سنوات أو طوال عمرهم!

وإذا فُرز من بين العاملين في المهن المختلفة الذين أقحموا في أعمال لأنهم لم يجدوا غيرها، وأمثالهم من الكسالى واللامبالين الذين لا يصلحون لأي عمل، وقد يقاس على حالهم الذين يعاملون معاملة سيئة، ولا تعطى لهم حقوقهم، فإن سائرهم يعدون من المنهمكين والمنتجين الفاعلين في أعمالهم، وعلى أكتافهم، وبأفكارهم وإدارتهم تنمو وتنتظم وتتقدم المجتمعات. 

وهذا التنوع في التخصصات والهوايات مما خلقه الله تعالى في نفوس عباده، حتى تكتمل الجوانب العلمية والعملية في المجتمع، وتقوم بها عمارة الدنيا. ولو أن هوايات الناس وتخصصاتهم تماثلت لما تصوِّر إقامة دولة على وجه الأرض!

فلو أن معظم الناس أحبوا الصيد وتوجهوا إليه في البر والبحر، أو كانوا علماء لا يغادرون مكتباتهم إلا قليلاً، أو حقوقيين ومحامين وكفى، أو أدباء وشعراء فقط... كيف تتصور الحياة عندها؟ من الذي يحمل ويعمل في أعمال البناء وأسواق الخضر والمزارع وحقول النفط والحراسة وما إليها لو كان الناس كلهم أصحاب شهادات وأغنياء ذوي ثروات، أو أطباء، أو قادة...

إن الله سبحانه هو المتصرف في الكون، وهو خالق التخصصات والمواهب في البشَر، وسيبقى هذا الأمر موجوداً حتى آخر الدنيا.

يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [سورة الأعلى: 3] أي: الذي قدَّر لكلِّ شيء ما يُصلحه فهداه إليه. ومثله قوله عزَّ وجلَّ: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [سورة طه: 50]. فالله يوجِّه كلَّ شيء لما خلقه له، حيث أودع فيه صفات ومكونات خاصة تؤهله وتدفعه لأداء وظيفته التي خُلق لها في الحياة.

ونأتي إلى صلب الموضوع، وهو أن الله سبحانه رسخ في كل نفس ما تهواه، بحيث تصير مرتبطة به، فلا تكاد تنفك عنه! وقد خيَّره في توجيه هذا التخصص أو الهواية، بعد أن بيَّن له سبيل الخير والشر.

يقول ربُّنا العليم الحكيم: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [سورة الأنعام: 108]. وقد جاءت الآية ضمن تعلق المشركين بأصنامهم. ومعنى الآية: ومثلُ هذا التزيينِ الذي زيَّناهُ للمشركين، بحبِّ أصنامهم والدفاعِ عنها، زيَّنا لكلِّ قومٍ عملهم الذي ارتبطوا به وتفانوا فيهِ منْ خيرٍ وشرّ، فهذا ما أرادوهُ أصلاً وتعلَّقوا به.

وتتمة الآية الكريمة: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إنَّ مصيرهمْ إلى مالكِ أمرهم، فيُخبرهمْ بما كانوا عليه، ويُجازيهمْ على ذلك، ثواباً أو عقاباً.

والهاوي المسلم لا ينسى ربَّه وهو منغمس في تخصصه أو لعبته التي يهواها، وأنا أجمع بين الهواية والتخصص، لأن معظم المتخصصين يتلذذون بما هم فيه، حيث ينسون أموراً كثيرة من زينة الحياة ولهوها ولعبها، وهم في ذروة أداء أعمالهم!

وقد رأيت من الناس من نكب عن الرسالة الأساسية في هذا، واهتم بالشكل والمظهر.

فألوان الطعام والفاكهة ليست هدفاً وغاية وأساساً للإنسان، لكننا نرى أن بعض الأشخاص يهتمون به إلى درجة لا تتصور، ويغضبون ويهيجون ويتهاوشون لأجله!

والبحوث العلمية والعملية في المراكز والجامعات والمعاهد والمختبرات والمزارع يجب ألا تصرف المرء عن الغاية الأساسية التي وجدت لها هذه الأشياء، فهي علوم وآيات وأدلة على وحدانية الله وقدرته وعظمته، فكل نتيجة جديدة يجب أن تُربطَ بالخالق العليم، والوصول إلى نتائج جديدة بعد بذل الجهد والوقت والمال تفرح قلب المؤمن بما يدل على صحة الرسالة وتأييد الدين، وتنطق كل جزئية فيه بقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران: 191].

وتعلم علم الآثار منحرف عن مساره الأساسي الذي وضعه له الدين، فقد نبَّه الله سبحانه في أكثر من آية إلى أن ينظر الإنسان إلى آثار الأمم الماضية التي أهلكها، لأنها كذَّبت رسله وأصرَّت على الكفر، ليعتبر منها ولا يكون مثلها، فيزداد إيماناً والتزاماً بدين الله. ومن تلك الآيات: {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} [سورة آل عمران: 137].

لكن الملاحظ أن التركيز في تعلم هذا العلم هو على معرفة كيفية معيشة تلك الأمم، والاستفادة من أشياء لهم، والبحث عن كنوز إن وجدت، وما إلى ذلك. أما العبرة وزيادة الإيمان في ذلك، فقد لا يخطر إلا على بال المؤمن، على الرغم من بقاء الآثاريين في مواقع آثارية شهوراً وسنوات في ظروف مناخية صعبة... ولينظر ما أقصده في هذا، وهو العبرة، والتركيز على العقيدة المنحرفة التي كانوا عليها، وإصرارهم وعنادهم على الخطأ، فلم يُغنِ عنهم ما كانوا عليه من حضارة ومدنية وقوة ومال، فقد أهلكهم الله رغم كل ذلك، فالعقيدة هي الأساس، والإنسان هو دائرة التركيز، فجميع العلوم يجب أن تتجه إلى توجيهه وإصلاحه، ثم تأتي الأمور الأخرى.

ولا شك أن الآثاريين والمؤرخين يذكرون -من ضمن ما يذكرون- عقيدة القوم وسلوكهم، نوعاً ما، ولكن ليس بتوجيه ديني سديد، ونقد وتمحيص، وذكر الحقيقة في عاقبة أمرهم. هذا إذا كان معروفاً أمرهم في ذلك، وإن الدارس للتاريخ يرى كثيراً جداً من العقائد الباطلة عنهم، ويستشهدون بالآثار الدالة على ذلك.

والكتاب وسيلة للمعرفة، وهو عند المسلم مرجع وثقافة إسلامية وعلم قيمته أكثر من المال مهما بلغ، لكن من الناس من عشقه لا لعلمه، بل لشكليات ومظاهر أخرى فيه، كأن يكون قديماً، وبخط فلان، ومذهَّباً، ومجلداً بجلد الحيوان الفلاني، وهكذا. يعني أنه لا يهمه العلم، بل الحبر والورق وما إليه. ثم تراه قاعداً في مكتبته ساعات وهو ينظر في الخط أو يلمس الجلد وهو لا يكاد يقرأ منها شيئاً! وقد ينسى أن يذكر الله طوال هذا الوقت، ويذكر العلماء أن كلَّ ما ألهى الإنسان عن ذكر الله فهو حرام، وربما يعنون إذا ألهى عن واجب؟

وهكذا نرى أن العلوم والهوايات والتخصصات يجب ألاّ تُخرِجَ الإنسان عن وظيفته الأساسية في الحياة، وهي عبادة الله، سواء بأدائها، أو بالتفكر في كونه العظيم وما فيه من آلاء وعبر.

وليس معنى هذا الانحرافَ عن مقاصد العلوم، بل هو توجيه وتصحيح لمسارها الأساسية، حتى لا ينحرف الإنسان ويستعمل هذه العلوم في الإضرار بالبشرية، والإسلام يحث على العلم، ولا يشك في هذا إلا مغرض لجوج.

وانظر إلى قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [سورة يوسف: 105] أي: وكمْ مِنْ آياتٍ دالَّةٍ على وَحدانيَّةِ اللهِ وقُدرتِهِ مَبثوثَةٍ في السَّماواتِ والأرض، مَعروضَةٍ أمامَ الأعيُن، يُشاهِدُها النَّاس، ولكنَّهمْ لا يَتفكَّرونَ فيها، ولا يَعتَبرونَ بها، للأُلفَةِ والعَادةِ التي هُمْ عَليها، فاكتَفوا برُؤيتِها هكذا دونَ التعمُّقِ فيها ومَعرِفةِ الحِكمةِ منها، ولذلكَ لا تَجِدُ أكثرَهُمْ مؤمِنين.      

وأخيراً، فإن الهواية زينة حقاً، ككل زينة في الدنيا، فألبِسْها ثوب الدين وسماحته حتى تكون زينة لك في اليوم الآخر، ولا تغترَّ بما يزينه الشيطان لك منها حتى يجعل الباطل في ثوب الحق، فإنه عدو لك، يريد أن يأخذك من الطرف الذي تحب، وأنت لا تشعر!