أثناء مطالعتي لكتاب "مُختصر الفتاوى المصرية"؛ لابن تيمية - رحمه الله - وقفتُ فيه على كلام نفيس يهمُّ جانبًا خطيرًا من حياة المسلمين!
وأي شيء أخطر على المسلم من أن يُصيب عقيدته انحراف، أو يَشوبها شائبة وهو لا يدري، أو لا يرى بها بأسًا؟ ويَبقى على ما هو عليه حتى يُذكِّره مُذكِّر، أو تمضي به الحياة فلا ينتبه لها إلا عند الحساب!
نعم، قد لا ينتبه؛ لأنه - كما قلت - قد لا يعرف أنه على خطأ أو ضلال!
وقد يكون من أسباب تناولي هذا الموضوع، أنه يتعرَّض للجانب العقدي من حياة المسلم العملية، ومتى كان الموضوع يُعايش الواقع، ويُعالج مشكلةً حاضرة، كان وقعه في القلب أمضى، وكان انتباه المرء له أكثر.
المسلم الذي يعايش الواقع، ويدخل الحياة العمليَّة في جوانبها المتعددة قد تزل به قدمه إلى مآثم ومحرَّمات، ويَنجرف وراء أهوائه، ما دام الشيطان يُغريه في كل مرة، ويصمُّ أذنيه عن نداء الإيمان، وفي غمرة الحياة ومُغرياتها قد ينسى اللهَ الذي أنعم عليه بالمال أو الجاه أو السلطان، فيعتمد على نفسه وماله، ويتَّكل على أعوانه وذويه، فإن أصابته شدة التجأ إلى أفانين متعدِّدة، وتقدم بها إلى فلان وفلان، وانتظر منهم الفرج بعد تلك الشدة.
ينسى خالقه القادر المنعِم، الذي ينبغي أن يتوجه إليه أولاً، ويعلم أن بيده مفاتيح كل شيء، فما قدَّره كان، وما لم يشأ لم يكن.
وفي شكل آخر مِن خضمِّ هذه الحياة، التي تعج بالمتناقضات، وتتنوَّع فيها طبائع العباد وأساليبهم في المعاملات والأخلاق يقف المؤمن حيران بين هذه الأمواج المتلاطِمة، ويُحاول أن يُبحر فيها بسفينة النجاة، لئلا يتلوث ويناله إثم الحرام، وليعيشَ نقيَّ العقيدة صافي الجنان، بين منحرِفين لا يعرفون حقيقة كرامة الإنسان، ولا يقيمون وزنًا لمبادئ الإسلام.
ويَرتطم العبد المؤمن بأنواع من الناس يقفون عائقًا أمام آماله، ويُعقِّدون معاملاته، ويكدِّرون عليه صفو عيشه، عندها تتراكم عليه الهموم، ويُحاول أن يُجليها بذكر الله، ويتجه نحو عدل الرحمن، ويُذكِّر نفسه بأن مشيئة الله فوق كل شيء.
ولكن قد تخونه نفسه أحيانًا، وقد لا يُطاوعه قلبه في البقاء على ما هو عليه من رجاء الله، وتعلُّق قلبه به وحده، فيتَّجه نحو العباد، ويعلِّق قلبه بهم، وينتظر الفرج منهم.
فما حكم الإسلام في هذا الأمر العقدي المهم الذي لا تخلو منه حياة مؤمن في هذه الحياة، وبخاصة في هذا العصر الذي اختلطت فيه الأمور على المؤمن، وغدا وكأنه غريب عنها، ولا يَدري كيف يسير فيها!
هذا ما أردتُ تقديمه للحديث المهمِّ الذي تناوله العلامة ابن تيمية، في كلام موجز مفيد، حلل فيه إشكاله، وبيَّن خطورته، بكل إيمان وإخلاص، ووضع أيدينا على منافذ الخير فيه، وعلَّمنا كيف يكون المؤمن الحق، أو كيف ينبغي أن يكون، وكأنه بهذا يُخاطب نفس المؤمن - التي قد تزيغ عن الحق أحيانًا - ويُعلِّمها الإخلاص في جانب العقيدة التي آمنت بها، ويُنذرها من عواقب وخيمة لا يعرف مآلها إلا الله؛ يقول رحمه الله[1]:
فإن قيل: ما السبب أن الفرج يأتي عند انقطاع الرجاء عن الخَلقِ؟ وما الحيلة في صرفِ القلب عن التعليق بهم وتعلُّقه بالله؟
فيقال: سبب هذا: تحقيق توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية.
فتوحيد الربوبية أنه: لا خالق إلا الله، فلا يستقلُّ شيء سواه بإحداث أمر من الأمور، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا تحقَّق كان سببًا لأن يَنال مطلوبه ويأتيه الفرَج.
وأما مَن تعلَّق قلبُه بمَخلوق، فالمخلوق عاجز إن لم يَجعله الله فاعله لذلك.
وهذا مِن الشرك الذي لا يَغفِره الله، أن يَرجو العبد قضاء حاجته من غير ربه، فمَن أنعم الله عليه من المؤمنين بنعمة التوحيد منع حصول مطلوبه بذلك الشرك، حتى يَصرف قلبه إلى التوحيد، والله يُنزل بعبده المؤمن مِن الشدة والضر ما يُلجئه إلى توحيده فيدعوه مُخلصًا له الدين، ولا يَرجو أحدًا سواه، ويتعلق قلبه به وحده، فيَحصل له مِن التوكُّل والإنابة، وحلاوة الإيمان، وذوق طعمِه، والبراءة مِن الشِّرك، ما هو أعظم نعمةً مِن زوال ضره، فإن ما يَحصل لأهل التوحيد لا يُمكن وصفه من ذلك، فإن الضر في الدنيا، من المرض والعسر والألم، وغيره، يَشترك في زواله وذوق لذَّة حلاوته المؤمن والكافر؛ لأنه مِن أمور الدنيا، بخلاف حلاوة الإيمان، فلا يُمكن أن يُعبَّر عنه بمَقال، ولكل امرئ من المؤمنين نصيب بقدر إيمانه.
فمَن تجرَّد توحيدُه لله بحيث يُحبُّ في الله، ويوالي فيه ويُعادي فيه ويتوكَّل عليه، فلا يسأل إلا إياه، ولا يرجو غيره؛ بحيث يكون عند الحق بلا خلق، وعند الخَلق بلا هوى، قد فنيَت عنه إرادة ما سواه بإرادته، ومحبة ما سواه بمحبَّته، وخوف ما سواه بخوفه، ورجاء ما سواه برجائه، ودعاء ما سواه بدعائه، هو أمر لا يعرفه بالذوق والوجْد إلا مَن له منه نصيب، وما مِن مؤمن إلا وله منه نصيب.
وهذا هو حقيقة الإسلام، وقطْب رحى القرآن، به بعَث الله الرسل، وبه أنزل الكتب، والله المستعان وعليه التكلان.
وبعد هذا الحديث الجليل مِن الشيخ الإمام لا أقول بأنني دهشت لقراءته - مثل غيري مِن القرَّاء - بل أقول: إنه ذكَّرني بالحق الذي ينبغي أن يكون عليه كل مسلم.
وقد ذكَّرني هذا بالذِّكر الذي كان يداوم عليه الإمام النووي[2] في كل يوم، بعد صلاة الفجر، وحفظه لنا تلامذته المحبون، عندما داوموا على قراءته، وعلَّموه غيرهم، وفيه دعاء للمرء ولأهله وذويه، ومنه:
"اللهم إني أسألك لي ولهم مِن خيرك بخيرك الذي لا يَملكُه غيرك، اللهمَّ اجعلني وإياهم في عبادك وعياذك وجوارك وأمانك وحزبِك وحرزك وكنَفِك مِن شرِّ كل شيطان وسلطان وإنس وجان وباغٍ وحاسِد وسبع وحية وعقرب... حسبي الرب من المربوبين، حسبي الخالق من المخلوقين، حسبي الرازق من المرزوقين، حسبي الناصر من المنصورين، حسبي الساتر مِن المستورين، حسبي القاهر من المقهورين، حسبي الذي هو حسبي، حسبي مَن لم يزل حسبي، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله من جميع خلقه".
ونقول مع سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، في الحديث المتفق عليه: "اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك".
(نشر في جريدة "المدينة" ع 7437 (15/1/1408هـ) )
[1] مختصر الفتاوى المصرية لشيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية، اختصار: بدر الدين أبي عبدالله محمد بن علي الحنبلي البعلي الشهير بابن اسباسيلا، راجعه أحمد حمدي إمام، القاهرة: مطبعة الإمام، 1400هـ، (ص: 134، 135).
[2] طبع في دمشق، مكتبة الفارابي، في كتيب من الحجم الصغير، ووضَعَ له مقدمةً ضافية الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.