يردُ كثيراً وصف الجنات في الآخرة بأنها "تجري من تحتها الأنهار"، ويوردها مفسِّرون هكذا دون زيادة.
وذكرَ ابنُ كثير في أكثرَ من موضعٍ أن "من تحتها" تعني "خلالها"، أي بين قصورها وبساتينها. وقال في تفسير الآية (24) من سورة الحج: أي تتخرَّقُ في أكنافها وأرجائها وجوانبها، وتحتَ أشجارها وقصورها، يَصرِفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا. اهـ. وهو يفسِّر الأنهار لا بما يجري فيها من ماء سلسبيلٍ فقط، بل بأنواع العصاير والمشارب، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ويذكرُ الزمخشري في جريان الأنهار من تحت الجنات بأنه: كما تُرَى الأشجار النابتة على شواطئ الأنهار الجارية.
قال: وأنزه البساتين وأكرمها منظراً ما كانت أشجاره مظلَّلة، والأنهارُ في خلالها مطَّردة.. وأن الجنان لا تروق للنواظر ولا تبهج الأنفس ولا تجلب الأريحية والنشاط حتى يجري فيها الأنهار، وإلا كانت أشجارها كتماثيل لا أرواح فيها، وصورٍ لا حياة فيها.
أقول: ولو رأى القارئ متنزهاً أرضه رمل ناعم وحصى صغير، يسيل الماء عليها سيلاناً، ويمشي بين الأشجار الخضراء رقراقًا، فلو تنزه فيه لأبهج نفسه، ولما فترت شفتاه من الابتسام، ولما نسي هذا المنظر، فإنه لا يكاد يماثله جمال طبيعي. نسأل الله جنته.
وقال الآلوسي في الآية (9) من سورة يونس، في تفسيره (روح المعاني): أي [تجري] من تحت منازلهم، أو من بين أيديهم. وقال في تفسير الآية (14) من سورة الحج، والآية (11) من سورة البروج، دمجًا بين تفسيريهما: إن أريدَ بالجنات الأشجارُ المتكاثفة الساترةُ لما تحتها، فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهر، وإن أُريدَ بها الأرضُ المشتملةُ على الأشجار، فاعتبارُ التحتيَّةِ بالنظرِ إلى جزئها الظاهر، فإنَّ أشجارَها ساترةٌ لساحتها، واسمُ الجنةِ يُطلقُ على الكلّ.
وقال البغوي: أي بين أيديهم، كقوله عز وجل: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [سورة مريم: 24] أي بين يديها. وقيل تجري من تحتهم، أي بأمرهم.
قلت: يعني بالأخير كما في قولهِ تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [سورة الزخرف: 51] ويعني: تحت تصرُّفي.
ويمكنُ تقريبُ نموذجِ قصرٍ تجري من تحته الأنهار كما وردَ في قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس، فقوله تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} [سورة النمل: 44] أي أن القصر كان من زجاج يجري من تحته الماء. فلما رأته بلقيس كذلك ظنته ماء كثيرًا، فكشفت عن ساقيها لئلا يبتل ثوبها بالماء، فقال لها سليمان عليه السلام وقد لمح استغرابها ودهشتها: إنه قصر مملَّس مستوٍ من زجاج وليس ماء.
قلت: وإذا كان الاستشهاد بالآية التي في سورة مريم لا يستبعد التأويل حسبما ذُكر، فإن وصف النعيم في الجنة لا يُقاس به في الدنيا، فقد صحَّ وصفُها في الحديث الشريف أن بها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولذلك لا يُستبعد أن تكون الأنهار تجري من تحت القصور في الجنة كما هو ظاهرُ اللفظ، بل ولا يُستبعد هذا حتى في الدنيا، كنهر وسط، يتربع عليه قصر ضخم وأعمدته تنزل في قعر النهر وعلى شاطئه، تماماً كما تنشأ الجسور، وبينها ما هو معلَّق لا يحتاج إلى أعمدة في النهر... بل قد أنشئت قصورٌ حتى في قاعِ البحار! نسأل الله أن يرزقنا جنَّته.
(قطعة من رسالة للكاتب بعنوان: "البيان فيما يركز عليه القرآن").