حالة كره

تعاملُ المسلم مع الكافر يختلفُ من صنف إلى آخر، فالكافر المحارِب يُبغَض ويُقاتَل ولا يوثَق به، والكافرُ الذي لا يؤذي يُتعامل معه، كما قال الله تعالى في الحالتين:

{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة الممتحنة: 8 – 9].

قلت: والتعامل مع الكافر غير المحارب يكون في معاملات ومصالح دنيوية، ولا يُحَبُّ أبدًا، فالكافر عدوٌّ لله، لأنه كافرٌ به، وأعداءُ الله أعداءٌ للمؤمنين، فلا يُحَبُّون.

والمسلم فيه طِيب وحسنُ نية لا تنفكُّ عنه، ولا يحمل الحقدَ والكره لأحد إلا عند الضرورة أو لسبب وجيه، بل هو مُشفق على الخلق، ويحبُّ لهم الهداية كما يحبها لنفسه.

وهذا الطيب يؤدي أحيانًا إلى خلل في التوازن يصيب نظرة المسلم وتعامله مع الأعداء، فتكون النتيجة غير طيبة، وغير صائبة، كما قال سبحانه وتعالى:

{هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} [سورة آل عمران: 119].

يعني المنافقين وأهلَ الكتاب، حيث كان رجالٌ من المسلمينَ يواصلونَ رجالاً من اليهود، لِما كانَ بينهم من الجوارِ والحِلْف في الجاهليَّة، فنُهوا عن مباطنتهم خوفَ الفتنةِ عليهم منهم، وبيَّن لهم أنهم إن أحبُّوهم فإنهم لا يحبُّونهم، بل يبغضونهم بغضًا شديدًا، وقد وضَّح هذا الأمرَ أكثر في الآية نفسها، بقوله: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ}.

وفي الآية التي قبلها تنبيه وتحذير، بقوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}!

وفي آخر الآية طلبٌ من المسلمين أن يعتبروا، ولا يتمادوا في الثقة بغير ميزان: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}.

فبغضُ المنافقين والكفار للمؤمنين كبيرٌ جدًّا وعميقٌ بشكل لا يوصف، ولو كان للقلوب صوتٌ لما أطاق المؤمن القربَ من أيٍّ منهم، ولا النظرَ في وجوههم. وقد بدا شيء من هذا في الآيات السابقة.

وهذه آية أخرى يمرُّ عليها المسلم ولا يتعمَّق في مدلولها، وهي قوله تعالى:

{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [سورة التوبة: 57].

أي: لو أنَّهم وجدوا حصناً يتحصَّنون به، أو مغاراتٍ في الجبالِ يُخفون أنفسَهم فيها، أو أنفاقاً في الأرضِ يدخلونَها، لصرَفوا وجوهَهم عنكم وأقبلوا إليها وهم يُسرعون، لا يلتفتون إلى شيء.

يعني: لو يجدون مَخْلَصاً منكم ومَهْرباً لفارقوكم، فهم لا يودُّون مخالطتكم، لأنَّهم ليسوا منكم!

فليحذرهم المسلمون، فإنهم نسخة أخرى من البشر غير المؤمنين، بل هم على عكسهم.

يقول عزَّ مِن قائل:

{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة التوبة: 67].

أي: المنافقون والمنافقاتُ متشابهون في كلامهم وسلوكهم، لأنَّهم على دينٍ واحد، يأمرونَ بالمعصيةِ وتكذيبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وينهَون عن الإيمانِ والطَّاعة، ويُمسِكون أيديَهم عن الصَّدقةِ والإنفاقِ فيما يُرضي الله. لقد نَسُوا ذكرَ اللهِ وتركوا طاعته، فعاملَهم اللهُ معاملةَ مَن نسيَهم، فحرَمَهم من توفيقه وهدايته، ومنعَ لطفَهُ وفضلَهُ عنهم. إنَّ المنافقينَ خارجونَ عن الطَّاعة، بعيدون عن الحقّ.

ذاك وصفُ المنافقين أعداءِ الدين، وانظرْ إلى وصفِ المؤمنين بما يناقضُ وصفهم، في قوله سبحانه وتعالى:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة: 71]

بيانها: والمؤمنونَ والمؤمناتُ يتناصرونَ ويتعاونونَ على البِرِّ والتقوَى، ويتعاضدونَ على ما فيهِ خيرُهم وخيرُ الناس.

فيأمرون بالإيمانِ والطاعةِ والإصلاح، وينهَونَ عن الشركِ والمعصية وما يخالفُ أحكامَ الشَّرع، ويؤدُّونَ الصَّلواتِ المطلوبةَ منهم، ويُعطون الحقوقَ الواجبةَ المترتِّبةَ على أموالهم، ويُطيعون اللهَ ورسولَهُ فيما أمرَ ونَهى، أولئكَ المتَّصفونَ بتلكَ الصِّفات، سيرحمُهم الله ويتولاّهم بلُطفه، إنَّ اللهَ عزيزٌ لا يمتنعُ عليهِ ما يريده، ولا يُعجِزهُ شيءٌ عن إنجازِ وعدهِ ووعيدِه، حكيم، يضعُ الأمورَ في مواضعِها كما ينبغي، لا يفوتهُ شيءٌ من ذلك.

ومما وصف الله تعالى به الكافرين؛ ليشمئزَّ منهم المسلمون ويعرفوا حقيقتهم ويكرهوهم أيضًا، قولهُ تعالى في الآية (45) من سورة الزمر:

{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}!

وأخيرًا... يقول الله تعالى:

{لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ...} [سورة المجادلة: 22]

أي: لا تجدُ أحدًا من المؤمنين باللهِ واليومِ الآخرِ - بصدقٍ وإخلاصٍ- يُوالُون ويصادقونَ أعداءَ الله ورسوله، ولو كان هؤلاء الأعداءُ آباءَهم، أو أبناءَهم، أو إخوانَهم، أو قبيلتَهم وعشيرتَهم، أو أيًّا من أقاربهم، فالعقيدةُ أهمُّ من النَّسَب، ومَن والاهم فهو معهم يومَ القيامة.