هناك قوم قدَّموا أنفسهم للإسلام، وتكلموا باسمه، وادَّعوا أن عقولهم متنورة، بينما قلوبهم مظلمة، فألسنتهم من أمامهم، ودينهم من خلفهم، ما رأيتهم مرة يتكلمون عن تقوى، ولا فوز للإنسان إلا بها، وما يتكلمون عن جنة أو نار، وإليهما مآل البشر، لكنهم يتهافتون على الاجتهادات في الدين ويبدون آراءهم في أعقد المسائل، وهم لم يجلسوا إلى عالم قط، ومعظمهم لم يدرس في معاهد دينية، ولا جامعات إسلامية، بل كل ثقافتهم الدينية تعود إلى صحف كتب فيها صحفيون لا تدري مذهبهم وفكرهم، ومرجعهم وارتباطهم، أو كتّاب دوَّنوا مقالات وألفوا مؤلفات، ولو كانوا خائضين في أوحال، فقرؤوا لهم، وتأثروا بهم، ويزيدون بلاء إذا قرؤوا كتبًا للفرق، فيتلقفون كلمات لهم في العقل والكلام، فيرددونها، ويخلطونها بالعقيدة الصافية، ويقولون: هذا هو الإسلام! ولعلهم لم ينشؤوا في جوّ إسلامي، ولم يتربوا تربية إسلامية، فلا تجد آثار خشية في قلوبهم، ولا خشوع في وجوههم، ولا ورع في حديثهم ومعاملتهم، لا يتورَّعون عن فتوى ولو لم يعرفوا مناطَ حكمٍ وعلةَ مسألة، ومآلَ العمل بها وعاقبة أمرها، والمتقون ينأون عنها ويحيلونها إلى غيرهم من أصحاب العلم والفقه خوفاً من أن يقولوا في دين الله بدون علم.
ولو كان أحد هؤلاء طبيباً، وقلت له إنك قرأت بعض كتب الطب والصحة التي اشتريتها من على أرصفة أو مكتبة، وأنك تتابع بعض الزوايا الطبية في الجرائد وأجوبة الأطباء فيها على أسئلة المرضى، وصرت أنت أيضاً تطببهم وتجيب على أسئلتهم، لقال لك مباشرة: إن ذلك لا يجوز، وأنك ستؤذي أجساد الناس وتهلكهم، فمهنة الطب عزيزة، ولابد لها من دراسة ومران، ومعالجة مرضى أولاً تحت إشراف أطباء أكثر معرفة وخبرة.. ويشرح لك شؤون الطب وفروعه العديدة؛ لبيان خطورته والتحذير من العمل به إلا لأهله.
وكذلك لو كان أحدهم مهندساً، وقلت له إنك تملك أدوات البناء، وتعرف صبَّ الخرسانة وعمق الأساسات.. وتتعامل مع الناس بدون دراسة وشهادة، لقال لك: إنك ستهدم بيوت الناس على رؤوسهم، فالهندسة المعمارية دراسة سنوات، ومعاينة، وموازين دقيقة في الطول والعرض والارتفاع..
ولو قلت إن الدين بحرٌ كذلك، لا يدرك غوره إلا علماء درسوا على علماء أكبر، وأمضوا الأيام والليالي يدرسون الأصول والقواعد الفقهية وفروعها، وعلوم القرآن التي تزيد على مائة نوع، وعلوم الحديث وأصوله، من الجرح والتعديل، وطرق التخريج، والناسخ والمنسوخ، وعلل الحديث، ومشكله، ومؤتلفه ومختلفه، وتوفيقه وغريبه، وبلاغته وإعرابه وأمثاله. وأنواع من حسن وصحيح، وضعيف وموضوع، ومرسل ومنقطع ومعضل، ومعلل ومضطرب، ومقلوب وشاذ ومنكر ومتروك... وأن هناك من يدرس سنوات فرعاً من هذه الفروع ليقدم فيها رسالة علمية..
ولو ذكرت له أبواب الفقه وموضوعاته وفروعه وقواعده الأصولية والفقهية... لملَّ من سماعها لطولها، وبعضها من المؤكد لم يسمع بها سماعاً..
ثم تقول: كيف لا تعرف شيئاً من هذه الأمور وأنت تبدي رأيك بأسرع ما يكون، وتُفتي في دين الله بغير علم وأنت لم تقرأ على عالم، ولم تدرس في جامعة ولم.. ولم.
والعاقل يتذكر ويرجع، والمؤمن يخشع ويؤوب ولا يعاند.
أما من يركب رأسه، فلا يهمه هذا كله، لأنه لا يعرف معنى التقوى، ولا يفكر بجنة أو نار، وإنما همه الوقيعة في المسلمين وخذلانهم لا الشفقة عليهم، والضحك على عقول علمائهم من أصحاب العمائم واللحى، ممن يطبقون سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويحافظون على دينهم..
وهذا الوصف لمن يستحقه، وليس لكلهم، فإن بعضهم إيمانهم على حرف والعياذ بالله، ولذلك الأفضل نصحهم وعدم التعمق في مجادلتهم؛ خوفًا من سماع ما يُخشى منه، فإن بعضهم يجتهد حتى في أمور عقدية خطيرة، لأن عقله يقوده إلى ذلك، فالعقل عنده (جاهز)، لأنه لا يعرف أو لا يحفظ أثرًا من قرآن وسنة، وليس عنده قواعد وموازين نقلية، فإذا كان أهل العلم جميعًا يقولون أفضل التفسير ماكان تفسيرًا للقرآن بالقرآن، كان الجواب في عقله الموبوء أن الأفضل ما كان تفسيره بالعقل، ولو كان هذا العقل غير مدرك لجوانبه! ولم يأخذ باعتبار ٍ قولَ صدِّيق هذه الأمة: "أيُّ أرضٍ تقلُّني، وأيُّ سماءٍ تظلُّني، إذا قلتُ في القرآنِ ما لا أعلم"؟! كما أنه لا يكاد يقيم للسنة وزنًا، لأنه لا يعرفها، ومن جهلَ شيئًا عاداه، ويسهلُ عليه أن يقول (لا يوجد) أو (لا لزوم له) بدل قوله (لا أعلم) أو (لا أعرف) الثقيلة على (مثقف) مثله!
إن هؤلاء عليهم أن يعالجوا قلوبهم أولاً بالخشية قبل أن يعملوا عقولهم في دين الله، ليتقوا الله ولا يقولوا في دينه ما لا يعلمون، فإنهم ليسو أهل اختصاص، وغير متمكنين في هذا الدين العظيم، وإنهم لمسؤولون أمام الله يوم الدين بما كانوا سببًا في انحراف عقول ومرض قلوب. ليتذكر أحدهم ذلك اليوم الرهيب عندما يسوقه ملَكٌ ويوقفه بين يدي الله، وملَكٌ آخر يشهد عليه بما قال وبما فعل، ماذا يكون جوابه؟ {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [سورة هود: 105].