العقلانية مدارس وأفكار، في الشرق وفي الغرب، تشترك في أن العقل، لا الوحي، هو المرجع الوحيد (أو الأول) في تفسير كل شيء في الوجود.
ولا تؤمن بالمعجزات، أو خوارق العادات.
وتختبر العقائد الدينية بمعيار عقلي، فما وافق العقل منها قُبل، وإلا رُفض!
والعقلانية لها جذور تاريخية في الفلسفة اليونانية، وعند المسلمين، وفي الغرب.
والمهم في هذا المقال هو الاتجاه العقلاني المعاصر في البلاد الإسلامية، المتأثر بالفكر الغربي، والذي فُتن به كثير من المفكرين المسلمين، حتى تسلَّل إلى بعض علماء الإسلام، في درجات من التأثير، ضعيفة وقوية.
وهم بدعوى تقريب الدين للناس تساهلوا في عرضه وبيان سماحته ولينه حتى سقطت هيبته من نفوس كثير من الناس! مثل التهاون في عقيدة الولاء والبراء بدعوى التسامح الديني وحقوق المواطنة، وهم بذلك لم يرضوا الربَّ ولا الغرب.
وقولهم إن الدين يحتاج إلى "تطوير" للحاق بركب الحضارة الغربية.. مع أن دين الإسلام لم يقف في يوم من الأيام في طريق العلم والتقدم والحضارة.
ومنهم من قرَّب غيبيات الدين بأنها دلالات رمزية غير حقيقية، وأن ذلك ناسب سذاجة العرب في وقتها، فخُذل بذلك وضلَّ.
وردُّوا السنَّة النبوية الشريفة كليًا أو جزئيًّا، فمنهم من قبلَ المتواتر منها فقط، وهي بضعة أحاديث، ومنهم من قبل ما وافق القرآن وحده، مع أن السنة تشريع مثل القرآن الكريم إذا صحَّت، فكلاهما وحي من عند الله تعالى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.
ومنهم من قبل الأحاديث إذا اتفقت مع العقل والتجربة البشرية.. وهو ميزان قلق لا يتفق مع كل العقول، والتجارب تتغير وتتجدد.. وتوجد أحاديث غيبية لا تخضع للتجربة.. وقد أجاب عن الشبه الواردة على السنة أعلام في كتب كثيرة، أبرزها كتاب "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للعلامة مصطفى السباعي، و"دفاع عن السنة وشبه المستشرقين والكتّاب المعاصرين" للأستاذ محمد محمد أبو شهبة رحمه الله..
ووضعوا حرية واسعة في الاجتهاد والتخفيف من قيوده. والهدف من الاجتهاد هو إصابة الحق، ولا يقدر عليه إلا من توفرت فيه شروط الاجتهاد، والإحاطة بالمسائل الفقهية، حتى لا يأتي الجواب متعارضًا مع قواعد أصولية وفقهية ونصوص شرعية أخرى. ومن لا يعرف السباحة كيف يسبح؟ وإذا سبح ألا يغرق؟
ثم إنهم يقدِّمون العقل على النقل، يعني على الوحي، وهو من أخصِّ أصولهم وأقدمها، وسبقتهم إليها فرق عقلانية في التاريخ الإسلامي، من مثل المعتزلة والجهمية وغيرهما.
وبتفضيلهم العقل على الوحي كأنهم يفترضون أن القرآن والسنة قد خلوَا من المعقولات! وأن العقل الصحيح يمكن أن يعارض النصَّ الصريح. وهو ما لا يكون في دين الإسلام، لأن العقل والنقل إن تعارضا فإما أن العقل غير سديد، أو أن النص غير ثابت. ولابن تيمية كتاب ضخم في هذا يقع في (10) مجلدات، بعنوان "درء تعارض العقل والنقل".
ثم إن تقديم العقل على النقل هو تقديم للعقل البشري الذي يخطئ ويصيب على النص الشرعي المقدَّس.
وقد قال لي أحدهم إن كلمة العقل وتصريفاته وردت في القرآن كذا مرة، فكيف تستهين به ولا تقدمه؟
يا سبحان الله! ومن يستهين بالعقل غير المجنون؟! أليس هو أجلُّ ما خلقه الله في الإنسان؟ إن الذي يستهين بالعقل يستهين بعقله أولاً. ولكن كل ما ورد من (عقل) في القرآن يدعو إلى الالتزام بالقرآن، وإلى طاعة الله ورسوله، وردِّ كلِّ شيء إلى الشرع. يعني باختصار: إلى الوحي. فالوحي أولاً.
وقد يجادل أحدهم ويقول: ما قيمة الوحي إذا لم يكن هناك عقل؟!
أقول: وهل نزل القرآن على مجانين؟ هل الوحي يخاطب العقلاء أم المجانين؟ هل اتِّباعُ الوحي يعني إلغاءَ العقل؟ هل عندا تصلي تلغي عقلك؟ هل عندما تبحث عن جواب فتوى عويصة تضع عقلك جانبًا؟ إنه تشويش بلا فائدة.
لقد نزل الوحي ليضبط العقل في تصرفاته الخاطئة، ليدلَّه على الحق، لينوِّره، فإن الوحي يسدِّد ولا يخطئ، والعقل يخطئ، ولذلك فالوحي أولاً، ثم العقل.
و(العقلانيون) يقدِّمون المصلحة على النص. وهذا يشبه ما قبله، في توهمهم أن قاعدة المصالح والمفاسد الشرعية وقاعدة مقاصد الشريعة قد تأتي مخالفة للنص الشرعي، وهذا باطل؛ لأن الدين شُرع لمصالح الناس، فكيف يوجد فيه ما يخالفها؟
وانساقوا للخضوع إلى الواقع مجاراة للعصر وأهله على حساب الدين وقواعده تساهلاً منهم في ذلك، وهو دالّ على رقة في الدين، وضعف في الشخصية، وانهزام نفسي تجاه المدنية الغربية.
ونشأ من أسلوبهم الانهزامي هذا إضعاف لعالمية الإسلام، بإحلال روابط غير رابطة الدين والترويج لها على حسابه، وجعلوا النصوص الشرعية تابعة للاتجاه الفكري لا العكس، وأضعفوا الثقة بشمولية الإسلام وهيمنته؛ للتوفيق بين الإسلام والنظم الغربية، وزهَّدوا الأمة بسلفها العظام، كما دعموا المذاهب الغربية مع تمريرها.. ورحم الله من اتبع سنن الهدى، وتبصَّر في دينه بقواعده.
(مستفاد من موسوعة المذاهب الفكرية، مع إضافات).