نفايات في بيوت الله!

من أبرز سمات المساجد أنها نظيفة، فلا تجد فيها سجادات وسخة، ولا حيطاناً متسخة، ولا روائح كريهة، فكل ما فيها طاهر نظيف. وهذا نتيجة التوجيهات الدينية الكريمة، فلا تصح صلاة على ما فيه نجاسة، التي يكون فيها غالباً ضرر على صحة المصلين، فلا تكاد تجد نجساً إلا وهو قابل أن يكون ملوَّثاً وحاملاً للجراثيم.

ومنذ سنوات ابتدع في المساجد أمر يخشى أن يكون له ضرر أكثر من نفعه، وهو وجود المناديل الورقية الناعمة فيها، التي يستخدمها المرتادون إلى المساجد عادة لتنشيف أياديهم ووجوههم من ماء الوضوء، وربما لإزالة البصاق والمخاط والنخامة التي قد تغلبهم وهم في المسجد. ولا شك أن المتبرع بهذه المناديل يكون مأجوراً إن شاء الله إلى هذا الحد، على أن هناك مذاهب فقهية تذهب إلى كراهة التنشيف من ماء الوضوء إلا لسبب.

أما السلبيات التي يخشى منها فهي:

نتيجة وجود هذه المناديل فقد وُضع في كثير من المساجد سلات للمهملات، وكثير من المصلين الذين يمتخطون أو يخرجون نخاماتهم يضعونها في هذه المناديل ثم يرمونها في تلك السلال، وقد يكون بعضهم، حاملاً لأمراض قد تكون معدية، حتى لو كانت خفيفة كالزكام.

وهذه السلال لا يهتم بها غالباً، فقد تكون وسخة، من ظاهرها وباطنها، ولا تفرَّغ في كل يوم، بل إن بعضها يبقى أسابيع طويلة، فلا تفرَّغ حتى تمتلئ، وإذا فرِّغت فلا تُغسل غالباً، وإذا غُسلت لا تعقَّم. وهذا ما لاحظته في جوامع كبيرة وصغيرةّ! ولعل السبب يعود إلى الخادم المسكين الذي يعكس على أداء عمله أشياء، منها راتبه الضعيف جداً الذي لا يشبع (...؟)، وعلى قلَّة أجره فإنه يؤخَّر شهوراً، وأعرف خدماً وحرّاساً للمساجد لم يقبضوا رواتبهم نحو عشرين شهراً أو أكثر!! ويعيشون على غسل السيارات وبيع المساويك وما إلى ذلك، فبأي نفسية يعملون؟ وهذا صرخة للاهتمام بهؤلاء الضعفاء المظلومين، فمن يسمعهم، وهم أولى من بيوت الله.

والمساجد من المجمَّعات المفتوحة، التي قد تنتقل فيها الأمراض ما لم يُعتنَ بها، وإن كانت تُغلق عشرين ساعة من أصل أربع وعشرين ساعة! فإن الإقبال عليها في أوقات الصلوات كثير. وليلاحظ مثلاً مدى العناية بالحاويات الصغيرة في المستشفيات وكيف تكون مغلقة وتفرَّغ بين كل مدة وأخرى، وبين ما هو في المساجد، ولا شك أن المنشأتين مختلفتان من حيث مرتاديها، ومع ذلك يؤخذ الأمر في الاعتبار، حفاظاً على صحة المسلمين.

ولا يُقاس الأمر على المسجد الحرام، فالأمر معتنى به هناك أكثر من كل مكان، ولا توجد به مناديل أصلاً، ولكن السلال وضعت احتياطاً، لبعد المصلين من خارجه.

ومما يخفف من هذه السلبيات هو التوعية الصحية داخل المساجد نفسها، وذلك بأن يوجه الخطباء المصلين إلى عدم رمي المناديل فيها، بل كل يضع ما استعمله من المناديل في جيبه بعد استعمالها.

ولا أظن أن هذا يكون حلاً شافياً، فالصغار، والمهملون، واللامبالون موجودون في كل مكان، وهناك "مخالفات" يلحظها الناس قد تكون فردية، ولا تورد هنا.

ولذلك أطلب منع المناديل وسلات المهملات في المساجد كلها، ويبقى الأمر على ما كان سابقاً، فكلٌّ يضع في جيبه ما يحتاج من المناديل، ويردُّ ما استعمله إليه، حتى لا يسبب ذلك إشكالات صحية للمصلين، والكثير منا يتقزز عندما يكون واحد بجانبه فيتناول كمًّا من المناديل لينظف كل ما في أنفه، أو يخرج أصواتاً من أنفه وكأنه يتمخَّط في مكبِّر صوت. ولو أنه فعل ذلك في مجلس لتغيَّظ منه الناس، فكيف وهو في بيت الله، أو في الصلاة بين يدي الله؟ وعلى الأئمة والخطباء أن ينبهوا إلى هذا، فالمسلمون يترددون إلى المساجد كل يوم، وهذه المظاهر السلبية ينبغي أن تُبعد من المساجد بقدر الإمكان، ولو لم توجد المناديل فيها لقلَّت هذه المظاهر جداً.  وكان يجب على هذا وذاك أن يتنظف في البيت أو يستنثر جيداً أثناء الوضوء، أو يتنظف كما يريد قبل أن يدخل المسجد، فبيت الله مكان للصلاة والذكر والخشوع، وليس مكاناً للتنظف، وإنما مكان ذلك الحمّام أو المغسلة... والمهم أن يكون هذا خارج المسجد، إلا إذا غلب على المرء شيء، فلا يُلام عليه.

هذا إضافة إلى أنه أدب غير ملائم للأطفال، الذين يأتون إلى المساجد ليتأدبوا بأدب الإسلام، فيتناول بعضهم المناديل وينظفون أنوفهم دون حاجة تُذكر، تقليداً للكبار، وبعضهم لا يُحسن التنظف فلا يكون ذلك محبَّذاً لمن حوله.

ومن المؤكد أن ديننا الحنيف يحث على نظافة المسجد، وإخراج الأوساخ والنجاسات منه، فهل وضعُ سلال المهملات، ووضع النفايات فيها يتوافق مع هذه التوجيهات الكريمة؟

أظن القراء سيوافقون أن الجواب هو: لا. إذاً فلماذا هي موجودة إذاً، وهي لم توضع في المساجد إلا لوضع النفايات فيها؟ وأين هذا من الحثِّ على تنظيف المسجد وتطييبه؟

وقد يرد سؤال ضمن ما يورد هنا، وهو حكم أخذ المناديل التي في المساجد ووضعها في الجيب للتنظف بها خارجها، فهل هو جائز؟ هذا ما يفعله بعض الناس، والمتقون يخافون فلا يفعلون ما فيه شك وشبهة، وقد وضعت هذه المناديل لاستعمالها داخل المسجد وليس خارجه.   

وما أوردته من طلب منعه لم أردْ به حكماً فقهياً، فلست أهلاً للاجتهاد، وإنما هو "طلب" ينظر فيه الفقهاء، بعد دراسة إيجابياته وسلبياته من جميع جوانبه، ويكون بينهم أطباء مجتمع صحيون، ليبينوا للفقهاء مدى خطورة النفايات والأوعية التي توضع فيها دون أن تعقم أو تنظف، حتى يكون حكمهم صائباً.

وأذكر هنا بعض ما وقفت عليه من أحاديث وأحكام فقهية مما يناسب الموضوع:

    1- ما يخرج من الأنف من المخاط نقل غيرُ واحد من العلماء الإجماع على طهارته (حاشية الروض المربع 1/364). وكذا البصاق والنخامة.

    والبلغم هو المنعقد من اللعاب والمخاط. ومنهم من فرَّق، وقالوا ببلغم الرأس، وبلغم الصدر، وبلغم الحلق. وقد نقل الزركشي الإجماع على طاهريته، مع أنه مختلف فيه. وفي رواية عن الإمام أحمد أنه قال بالنجاسة (الإنصاف 1/341).

وجزم ابن الجوزي بنجاسة بلغم الصدر. وقال الإمام النووي: إن نخامة الرأس طاهرة، وكذا نخامة المعدة. (المجموع 2/551).

والقيء متفق على نجاسته كما قال الإمام النووي، لكن ذكر الباحث الآتي أنه مختلف فيه [قلت: الاتفاق على نجاسته مذكور في مصادر عديدة، ينظر الفقه الإسلامي وأدلته لوهبة الزحيلي 1/51].

وقال باحث معاصر: المخارج المعتادة في الرأس أربعة، هي: العينان، والأنف، والأذن، والفم، يخرج منها ستة عشر خارجاً، كلُّها ترجَّح أنها طاهرة. (حكم الخارج من الإنسان لعبدالإله الدريويش ص 30، وما سبق منقول منه). [قلت: هو ترجيح من قبل الباحث، ولا يؤخذ قوله على عمومه].

    2- وإذا كنت ذكرت ما سبق، فإن الأمر الذي أورده في هذا المقال يتعلق بناحية الضرر الصحي، يعني أنه ولو كان ما ذُكر طاهراً لا يتنجس منه المسجد، فإن الحكم في بقائه فيه يختلف إذا تبيَّن ضرره. والمسلم مكرَّم ومعتنى به في الإسلام أكثر من المساجد وشكلها وفُرشها، بل هو أكرم عند الله حتى من بيته الحرام. وهنا تكون كلمة الطبيب لها أهميتها وتأثيرها في الحكم الشرعي. ومن المعروف أن ما يُرمى في السلال الموجودة في المساجد ليس كله صحياً، بل فيه ما هو مضرّ، وخاصة إذا كان مكشوفاً، وحتى لو كان مغطًّى فإن الميكروبات تصعد مع الأبخرة التي فيها عندما تُفتح لترمى فيها الجديدة، مما يؤثر في جو المسجد وتنفس المصلين، ولو كانت بعيدة عنهم عند الأبواب، وقد رأيت منها ما يكون أمام المصلين بجانب صناديق المصاحف! ولعله أكثر خطراً من الروائح الكريهة التي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يأتي صاحبها إلى المسجد حتى لا يؤذي المصلين بها، كمن أكل البصل والثوم، وقاس عليها العلماء رائحة الدخان وما إليه...، وهذا تأثير نفسي، فكيف بما هو صحي؟

   3-  وحول الحديث الذي رواه البخاري "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في حائط المسجد فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حصاة فحتَّها..." الخ. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: العلة العظمى في النهي احترام القبلة لا مجرد التأذي بالبزاق ونحوه، فإنه وإن كان علة فيه أيضاً، لكن احترام القبلة فيه آكد. ا.هـ.

قلت: لا شك أن الموجودين في المسجد يتأذَّون بالنخامة والنخاعة وما إليها، إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر، فالعلة موجودة.

   4-  وفي الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها ردمها". رواه ابن حبان في صحيحه (الإحسان) وصححه الشيخ شعيب على شرط البخاري.

قلت: إن دفن البصاق تحت التراب والرمل وما إليه يمنع من صعود الأبخرة منها وما فيها من جراثيم، إن وجدت، أما المناديل الورقية الناعمة فيظهر فيها آثار البلل مباشرة.

وفي صحيح البخاري، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبلة المسجد نخامة، فحكها بيده، فتغيَّظ".

أقول: وهذان حديثان خطيران، يقف منهما المؤمن التقيّ موقف الخائف الوجل، وإن الذي يرمي منديلاً مستعملاً في حاوية بداخل المسجد، لا يُقال إنه رماها في خارجه، فليحتط المرء، وليبتعد عن الشبهات.

   5-  قال العماد الأقفهسي رحمه الله في "تسهيل المقاصد لزوار المساجد" (طبعة وزارة الأوقاف بالكويت) ص 106: أطلق جماعة من الأصحاب (يعني الشافعية، فهو فقيه شافعي مجتهد) لفظ الكراهة على البصاق، ولعل مرادهم كراهة التحريم، لأن من عادة الأولين التعبير عن التحريم بالكراهة.

ثم تابع ما ورد من إباحة ذلك في الأحاديث إذا كان الشخص مصلياً ولكن ليس باتجاه القبلة، وأن بعضها معارض بما هو أصح منه... وقال أخيراً في ص111: ولا خلاف أنه يحرم البصاق في المسجد من غير حاجة.

وفي حديث أبي ذر المخرَّج في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: "عُرضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يُماط عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تُدفن".

   6-  وأذكِّر إخواني المصلين أن لمن ينظف المسجد، أو يُخرج الأذى منه أجراً كبيراً وثواباً عظيماً، ويكفي أن فاعله يحظى بمحبة الله ورسوله، وفي حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري، أن رجلاً أسود، أو امرأة سوداء، كان يقمُّ المسجد [أي يكنسه]، فمات، فسأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات. قال: "أفلا آذنتموني به؟ دلوني على قبره" أو قال: "على قبرها". فأتى قبرها، فصلى عليها. اهـ.

فإذا لم يكن المصلي ممن يفعل ذلك، فلا يرمي في المسجد أذاه على الأقل، في سلة أو في غيرها.

هذا، ولم أقصد بهذا المقال إثارة شيء من الخوف حول نفايات تكون في المساجد -والنفاية بقيَّة الشيء، أو ما أُبعد من الشيء لرداءته- بقدر ما أردت أن أنبه إدارات المساجد إلى ما ينبغي منعه أو إقراره بعد دراسة جادة للموضوع، وبيان حكم شرعي فيه، فإذا لم تُمنع المناديل فلا أقلَّ من أن تُمنع الأوعية التي تُرمى فيها؟ فهذا رأي في الطب الوقائي من ناحية علمية، أو ملاحظة على ما قد يكون بدعة من ناحية شرعية. والله أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.