الفرقة الذبابية

كُتِبَ عن الفِرق والطوائف والأحزاب كثيرًا، ولكن لم أرَ من خصَّ "الفرقة الذبابية".بمقال أو كتاب، على الرغم من معرفة كل المثقفين المسلمين بها في هذا العصر، وخاصة بعد كثرة الانشقاقات، وتعدد الأحزاب والجماعات في الأمة. فقد انتشرت هذه الفرقة ووصلت كلماتها المقذعة إلى صماخ الآذان، وأعماق القلوب، من خلال الوسائل المقروءة خاصة.

وليتها اكتفت بالصراخ في الأذن الخارجية، وجرحت غشاء الطبل، ووقفت في ساحة الأذن الوسطى... إلا أنها لا ترتوي ولا تهنأ ولا يبرد غيظها وقيظها حتى تجرح القلب، وتدخل في صميمه، وتعبث فيه حتى تُمرضه وتقلقه وتفتت شيئاً منه، عند ذلك ترتاح، وتتنفس الصعداء، وتعلم أنها قد حققت هدفها الأساسي!!

هذه الفرقة تظنُّ أنها أخذت على عاتقها رسالة الإسلام الصحيحة دون كل المسلمين، وأنها هي المخوَّلة لتصحيح ما علق بأفهام المسلمين من اعتقادات خاطئة، واجتهادات سقيمة - في نظرهم-، وكأنهم وحدهم يأخذون من الكتاب والسنة، وباقي المسلمين يأخذون من مصادر أخرى!

فإذا قيل لهم إن لهم أدلتهم، والأمر متوقف فيه، أو مختلف فيه منذ القدم، فالتمسوا لهم العذر كما فعل إخوانكم من السلف سابقاً، رفعوا عقيرتهم، فبدَّعوا وفسَّقوا، وقالوا: من لم يكن على رأينا أو اجتهادنا فليس من أهل السنة والجماعة، وكل الفرق ضالة إلى النار ماعدا الذي نحن عليه.

فإذا قيل لهم إن السلف من الصحابة والتابعين لم يتكلموا في هذا الموضوع أصلاً، وصانوا ألسنتهم من الخوض فيما لا علم لهم فيه، وكانوا أكثر فهما منا للدين، فلماذا لا يسعنا ما وسعهم، ولماذا لا نقتدي بهم في هذا؟... لم يتوقفوا كما توقف السلف، بل قالوا: هذا ما قال فيه فلان وفلان كذا وكذا، وهو قول السلف، ومذهب أهل السنة والجماعة، ومن لم يقل بذلك فليس منهم ...

وإذا ردوا على مخالفيهم جمعوا في كتاباتهم أقسى وأفظع وأكثر الكلمات جرحاً وإيلاماً، وهم إخوانهم في الدين، يتشهدون كما يتشهدون، ويصلون كما يصلون، ويجاهدون كما يجاهدون، ويفدون دينهم بأعز ما يملكون، ويعذَّبون ويُسجنون، ويهانون ويُطردون، ويُمنعون من وظائفهم وحقوقهم بسبب دينهم... كل هذا لا يشفع عند الفرقة الذبابية شيئاً، فالمهم هو فرض الرأي والاجتهاد على الآخرين، فمن لم يقبل رأيهم، فلا قيمة له، ولا مكانة له عندهم.

وإذا كان إخوانهم أبطالاً مجاهدين، ودعاة أعلاماً في هذا العصر، يجمع الله بهم المسلمين، ويهدي على أيديهم آخرين، ولهم مؤلفات أفاد الله بها أجيالاً، وتربَّى عليها شباب واعدون، وفتيات في عمر الزهور، في هذا العصر المليء بالفواحش والمنكرات والمغريات، وطُبع من كتبهم عشرات الألوف من النسخ... لم يعجبهم هذا كله، على الرغم من أنهم لم يجدوا في حياتهم ما ينقص من سلوكهم ومروءتهم، فباتوا في قلق ووجوم، كيف أن هؤلاء الدعاة والمجاهدين لم يكونوا على فكرتهم وطريقتهم واجتهادهم...؟! فيجمعون كتبهم المباركة تلك، لا بقصد الاستفادة منها أو المشاركة في أجر توزيعها، بل للبحث عن أي شيء فيها لا يوافق اجتهاداتهم، ورصد أية كلمة زلُّوا فيها، لينفِّروا المسلمين منهم ويبغِّضوهم إليهم، فيجمعونها في كتاب، ويكبِّرون الخطوط، ويجمعون فيها أقذع وأقسى الكلمات، ككلمة الطغام، واللئام، والأغمار، والأفهام السقيمة العقيمة، والجهلة ، والسفهاء، والمضللين، وغيرها، التي لا أذكرها، نظراً لأنني إذا رأيت كتاباً بهذا الشكل، لم أقرأ فيه مهما كانت فائدته، وقد قرأت مرة مقدمة في كتاب، فيه كلمات مما ذكرت، فوقع الكتاب من يدي دون شعور مني، وكأن عقرباً لدغني، ومن قال إن الكلمات لا تلدغ ولا تجرح؟

لقد نبَّه العلماء إلى أن تتبع أخطاء العلماء فقط دون ذكر محاسنهم وأياديهم البيضاء في الدين، ليس من آداب الدين، وأن على المسلم التماس العذر لهم بقدر ما يستطيع.

ولعلَّ أحسن تمثيل قرأته في ذلك هو قول ابن تيمية رحمه الله في أمثال هؤلاء: "الجاهل بمنزلة الذباب الذي لا يقع إلا على العقير، ولا يقع على الصحيح" (منهاج السنة 6/150). والعقير هو المعقور، يعني المذبوح، فيأتي الذباب على دمه وجلده وروثه بعد أن يُذبح، ولا يأتي على النظيف. ومن هنا جاء عنوان المقال.

وإن أجمل هدية أقدمها لمن يقوم بمثل هذه العملية، هو أن أن أعتبره من "الفرقة الذبابية"، التي تدلُّ - قبل كل شيء- على نشأته التربوية، فقد دلَّت حاله أنه إذا مرَّ بروض فيه زهور ورياحين، إما أن يبحث بينها عن الأشواك والطفيليات، أو أن ينزوي عنها ويبحث عن بقعة أو نبتة يجتمع عليها الذباب، فهذا ذو نفسية مريضة قبل كل شيء. وهناك علماء وإن كانوا على رأيهم، وأكثر تشبثاً منهم بما هم عليه، إلا أنك تراهم مؤدَّبين، يكتبون بأدب الإسلام، ويردُّون بأدب الإسلام، ويبتسمون في وجهك ولو كنت مخالفاً لهم في بعض ما يذهبون إليه. وأكثر الذين يتتبعون أخطاء أهل العلم ويستخدمون كلمات جارحة في كتاباتهم، هم كالفراريج التي تصيح بين الديكة، لا يهمهم أن تكون أصواتهم قبيحة ومنفِّرة. 

إن الخلاف سيبقى بين المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإنهم لمبتلون بهذه الاختلافات، والله ينظر إليهم كيف يتصرفون، ثم يحاسبهم على تصرفهم، فإما مثاب مجزيّ، وإما معاقب معذَّب، إلا أن يعفو الله.

إن النصيحة قليلاً ما تنفع الذين يتتبعون عثرات العلماء، وسقطات الدعاة، فالتربية لها شأن عظيم، ومن رُضِعَ شيئاً لا يُفطمُ منه إلا بعد معالجة وتزكية وتوبة وشيء من العزلة.

ويذكر ابن القيم رحمه الله من خصال المروءة: ترك الخصام والمعاتبة والمطالبة والمماراة، والإغضاء عن عيب ما يأخذ من حقك، وترك الاستقصاء في طلبه، والتغافل عن عثرات الناس، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد منهم عثرة! (مدارج السالكين 2/352).

وقد كانت نظرة الإمام أحمد بعيدة، عندما جيء له بكتاب "المدلِّسين" للكرابيسي، وهو لا يدري من وضع الكتاب، فلما قُرئ عليه قال: هذا جمع للمخالفين ما لم يُحسنوا أن يحتجوا به، احذروا عن هذا. ونهى عنه. نقله عنه المرُّوذي.

أقول: وقد يكون هذا التأليف عملاً علمياً مرغوباً ولا بأس به عند عامة أهل العلم، لكن نظرة الإمام أحمد وملاحظته كانت أرفع وأجلّ من نظرتنا إلى ذلك، فقد فكر فيما يورثه الكتاب من كراهية أهل العلم وبغضهم لهؤلاء المحدِّثين الأجلاّء، الذين جُمعت فيه أخطاؤهم دون أحاديثهم الأخرى الصحيحة، وأن هذا الأسلوب "المكروه" قد ينتشر بين العلماء في جوانب أخرى من العلوم الإسلامية، مما يؤدي إلى خروج العلم عن مساره الصحيح الموضوع له، وهو إصلاح الإنسان أولاً، وإن هدف العلم وغايته في الإسلام هو أن يورِثَ المرءَ التقوى، ليخشى الله فيما يأتي وما يذر، يقول سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر: 28]. فثمرة العلم الصحيح هي الخشية، فمن لم يخشَ الله فعلمه ليس مقبولاً عنده، ولا يبدو من هذا المتطاول على إخوانه بأنه يخشى الله ويتَّقيه، لِما بيَّنا، ولِما يأتي.   

بقي أن أذكر للقارئ الكريم أن هذه الفرقة "الذبابية" لا تخصُّ مذهباً عقيدياً أو كلامياً أو فقهياً معيَّناً مما هو في عالم الإسلام، بل يوجد بين طوائف وفرق وجماعات وأحزاب عديدة، ولذلك تجد بين من يردُّون على بعضهم البعض، أن هذا الطرف لا يقلُّ عن الطرف الآخر اختياراً للكلمات المقذعة، وتتبعاً للأخطاء وتكبيرها، ووقوعاً في الكبائر كالغيبة، والذي يجمعهم هو "الذبابية"... وأعرف كتّاباً لا يعرفون في التأليف سوى الردود، والكلام على الناس! ويبلغ من حقد بعضهم أن يذكر عنوان الكتاب دون ذكر مؤلفه، ربما تحقيراً له، أو لعدم إشهار اسمه، أو لعدم تحمُّله نفسياً إيراد اسمه!

ولا شكَّ أن هذا الأسلوب في اختيار الكلمات الجارحة، والهجوم باللسان السليط، الذي يبدو من ورائه الفظاظة والغلاظة، والحقد والكراهية، يؤدي إلى بذر روح الشقاق والخلاف في المجتمع، وخاصة في الطبقة المثقفة، التي ينبغي عليها أن تجمع كلمة المسلمين وتأخذ بأيديهم إلى ما فيه قوَّتهم وهيبتهم وسعادتهم.

يقول الله تعالى {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} [سورة الإسراء: 53].

ويقولوا سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [سورة الأنفال: 46].

فليت هذه "الفئة الذبابية" غابت عن مجتمعنا غير مأسوف عليها.

وليت هذه "المدرسة الذبابية" لم توجد في مجتمعنا، وكان بدلها مدرسة تربوية، تربي الشباب على التهذيب والتسامح والتقوى.

ليت هذه "الفرقة الذبابية" عرفت معنى الأخوَّة والمحبَّة، فجمعت ولم تُفرِّق، ولأمت ولم تجرِّح. وإذا كتبت التزمت بأدب الإسلام، فبيَّنته صافياً دون أن يشوبه حقد وكراهية وتنفير، وإذا نقدت فبأسلوب جميل وأمانة علمية تجعل صاحبه يقبل عليه قبل كل الناس!

وماذا لو نُقِدَ فصبرَ وعفَّ لسانه هو دون صاحبه؟ إنه بذلك يطيع ربَّه، ويصحح مسار الحوار والجدال، ويعلو شأنه عند الموافق والمخالف، ويكسب أجراً عظيماً، يقول سبحانه وتعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة آل عمران: 134].

والسلام على من كان هيِّناً ليِّناً مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبُعداً لمن كان جعظرياً، سيِّئ اللسان، لا يسمعُ الحقَّ ولا يتَّبعه.

يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الرفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزعُ من شيءٍ إلا شانه". رواه مسلم.

ووصف رسولَنا الكريمَ خادمهُ أنسٌ فقال: "لم يكنْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً، ولا لعّاناً، ولا سبّاباً، وكان يقول عند المَعتبة: ما لهُ تَرِبَ جبينه؟" رواه البخاري.

فهل رأيتم الذبابيين، استعملوا، ولو مرة واحدة قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "ما له تَرِبَ جَبينه"؟؟ فهلاّ تأدَّبنا بأدبه، ونحن ندَّعي أننا ندافع عن سنَّته؟ وهل اتصفوا بتلك الصفة الجميلة التي أثنى الله بها على عباده الأتقياء الأسوياء حيث يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحشر: 10]، والغِلّ: هو العداوة والحقد الكامن في النفوس، ويبدو من كلام الذبابيِّ أنه تنطبق عليه هذه الصفة البغيضة تماماً، وكأنه جمع في نفسه المريضة، وقلبه الكليل، أحقاد شعوب، وعداواتِ حروب، بدل صفة "الأخوَّة" التي عقدها الله سبحانه بين المؤمنين، في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: 10]، فهل شعر وهو يكتب أو يتكلم أنه يخاطب أخاً له لا عدواً، وأن للأخ المؤمن على أخيه واجبات عليه أن يقوم بها، بأمر من الله العزيز الحكيم، ونبيِّه الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام؟ أم أنه يشعر بأنه لا يهدأ ولا يستريح إلا أن ينفِّس ما في صدره من سموم وأحقاد وضغائن على أخيه هذا الذي وصَّاه الله به؟ لا شكَّ أنه بهذا يُسعد الشيطان، ويُغضب الرحمن، وهو بهذا لا يحمل رسالة ربِّه ولا ينافح عنها، بل ينفذ وصايا الشيطان، ويتقيَّد بآدابه، وهذا لا حديث لنا معه!

إن هذا الذي لا يستحيي من الله ويؤذي عباده بكلماته الجارحة، قد يستحي من الخلق فلا يؤذيهم إذا علمَ أنه سيُقال له: إنك ذبابيّ، أو من الفرقة الذبابية.

اللهمَّ عافنا فيمن عافيت.