كان لا بدَّ من هذا القول، وقد تشتت الشمل، وتفرَّق الجمع، وتفرَّغ كتّابٌ مسلمون لردِّ بعضهم على بعض وهم جميعاً من (أهل السنة)، وأنت تستشفُّ من رؤوس أقلامهم ألسنةً حِداداً، وتشمُّ من كلماتهم وأساليب ردودهم عداوةً وحقداً وكراهية، وكأنهم يردُّون على أعداء متربِّصين!!
وعندما تهيأت الانتخابات الحرة في بعض البلدان عام 1432هـ، برز الخلاف أكثر، وعلى السطح كما يقال، دون خوف أو حياء! وبين أكبر اتجاهين، هما الأشعرية والسلفية! بل صعد الخلاف من قبل حتى على جبهات القتال...
أي أن الخلاف عقدي!
ولو سألت: ما الذي يجمع المسلمين؟ لكان الجواب مباشرة: العقيدة هي التي تجمعهم.
ولكن الذي حصل الآن أن قسمًا من المسلمين تفرِّقهم اجتهادات أو وجهات نظر في العقيدة، وبعضها راسخة عند الفريقين!!
هذه صراحة تُقال ولم تعد تخفى! الذي كان يجمع المسلمين حقاً كانت العقيدة السمحة، فكانوا جميعًا، وكانوا أقوياء، ولمـّا تفرَّقوا لأسباب، منها سبب الاختلاف في مسائل عقدية، تفرَّقوا فضعفوا. ولم يؤثر في قوتهم مذهب فقهي، على الرغم من التعصب فيه عند بعضهم إلى درجة غير مقبولة، بل ومنفِّرة.
كلُّ هذا وغيره أثَّر في الساحة الإسلامية، وفي المجتمع الإسلامي، وفي الطبقة العلمية الراقية خاصة، وهي أسُّ الفكر والحركة في حياة المسلمين، فمنها تنطلق الأفكار، وتتشعب في العامة.
والحق أن الاختلاف في الأمة وغيرها واردٌ ومستمر، ولا مجال لوقفه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود: 118-119].
أي أن الله تعالى خلقَ الإنسانَ بطبائعَ مختلفةٍ وعقولٍ متفاوتة، ووهبهم العزيمةَ والقدرةَ على الاختيار، بعدَ أن أعطاهم العقلَ وبيَّنَ لهم الحقّ، ويكونُ من مقتضَى هذا التَّفاوتِ والاختلافِ بينهم، أن يكونوا متفاوتين ومختلفين في عقائدِهم وآرائهم، إلاّ مَن أدركتهم رحمةُ الله فاهتدَوا إلى الدِّينِ الحقّ، فهم لا يختلفون في العقيدة، ولذلك خلقَ الناس، حتَّى يتحمَّلَ كلٌّ تبعةَ اختياره، ويُجازَى عليه.
نقلَ الطبريُّ عن ابن عبَّاسٍ قولَه: خلقهم فريقَين: فريقًا يُرحَمُ فلا يَختلِف، وفريقًا لا يَرحَمُ يختَلِف، وذلك قَولُه: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [سورة هود: 105]. ا.هـ.
فأهلُ الرحمةِ لا يختلفون، وإذا اختلفوا فلا يكونُ اختلافُهم مثلَ اختلافِ الآخَرين في تباغضِهم وتفرُّقِهم. يقول الحسن البصريُّ رحمه الله: أهلُ رحمةِ اللهِ لا يختلفون اختلافًا يضرُّهم.
فالحديث هنا ليس عن الفِرَق، بل عن المسلمين من غير الفِرق، الذين يطلق على جماعتهم (أهل السنة والجماعة)، وهم الأشاعرة والماتريدية والكلاّبية والسلفية وأهل الحديث والصوفية من غير شطح، ويدخل فيها طوائف ومدارس أخرى ليس الهدف حصرها. ولا توافق السلفية على هذا القول، بل تعتبرها جميعاً فرقاً في النار، حتى الأشاعرة! وأنها وحدها –مع من تابعها- (الفرقة الناجية)! ولا أدري هل هذا قول أكثرهم أم بعضهم، فهم أيضاً صاروا مدارس وأسماء وجماعات، وفي كلِّ بلد حَرْفيون ومتسامحون، ومن السلفية من يعذر الآخرين بالتأويل لحسن قصدهم ورغبتهم في نصرة الحق، وإن كان يحكم عليهم بالبدعة.
والمهم القول هنا أنه أمر لم يعد يُرضي العلماء العاملين الذين يريدون جمع قوى المسلمين والتغلب على هذا الأسلوب في إثارة الخلافات القديمة والمكررة التي لا تنشر سوى التشتت والوهن والبغض والعداوة في مجتمع الإسلام، وقد نجح مفكرون مسلمون وجماعات إسلامية في علاج ذلك، بتركيزهم على النواحي العملية، فهم مسلمون وكفى، وقرآنهم موجود في قلوبهم وبين أيديهم، وكذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاجتهادات واردة، وحقُّ الخلاف معترف به، ولكن المهم هو التركيز على العمل الإسلامي وما ينفع المسلمين في دنياهم وأخراهم. وقد نجحوا بفضل الله، بعد دعوة وتخطيط وصبر وسياسة وتضحيات، ووصلوا إلى الحكم.
وإن أكبر جماعتين في الاختلاف كما قلت هي السلفية من جانب، والأشاعرة والصوفية من جانب آخر!
وإذا لم يكن بالإمكان مسح الخلاف من أساسه وجذوره، فإني أدعو إلى التخفيف منه إلى درجة ما. وهذه المسمَّيات تؤثِّر حقًا وتؤصِّل لخلاف، فلو قال لك أحدهم إنه سلفي أخذت عنه تصوراً كافياً لما هو، ولو قال إنه أشعري أو متصوف، كذلك. مع أنهم بين متساهل ووسط ومتشدِّد.
ولو لم تكن هذه المصطلحات الثلاثة لكان أفضل، وأكثر حسماً للخلاف.
فما هي السلفية؟ أليست تأخذ من الكتاب والسنة والسلف الصالح؟ فلماذا لا يقول معتنقوها إنهم مسلمون وكفى؟ لماذا هذا اللقب الذي اختاروه؟ هل لأنهم يأخذون من السلف وحدهم العقيدة والمنهج في الدين؟ ومن هم السلف؟ أليسوا كانوا يأخذون من القرآن والحديث؟ فإذا صاروا مثلهم في أخذ العلم من أصوله، فقد التقوا في الأخذ من الكتاب والسنة، وهديُ السلف الصالح لا يكون إلا بما ذُكر، فهم سواءٌ في مصدر التلقي، دون قولهم سلف وسلفية!
وقد اختار المسلمون مصطلح (أهل السنة والجماعة) في بدايات نشأة الفرق، للتفريق بينهم وبين الشيعة أو فرقٍ أخرى، وربما كانوا المعتزلة، في بدايات القرن الثاني الهجري (أنشأ هذه الفرقة واصل بن عطاء 80-131هـ، بعد اعتزاله مجلس التابعي الجليل الحسن البصري) وكان من منهجهم تقديم العقل على النقل، بخلاف أهل السنة في تقديم النقل (الكتاب والسنة) على العقل. واكتفوا بلفظ (السنة) لأن الفرق أيضًا تقول بمرجعية القرآن، ولكنهم يؤولون. وقرنوا بها (الجماعة) للدلالة على استصحاب الأصل دون الخروج عليه، واتباع جماعة المسلمين وهم الأكثرية. ولكن حتى هذا المصطلح فإن في النفس اليومَ منه شيئًا، فقد كان في وقت ما، وقد مضى زمنه، ولا يُذكر إلا أن يكون شيعي أو آخرُ من طرف، وسنيٌّ من طرف آخر.
والمسلمون ليسوا أهل سنَّة فقط، ولا أهلَ حديثٍ وحده، بل أهلَ قرآنٍ أولاً، وأهلَ سنَّة، وجماعةٍ، وإجماع، فيلتزمون الجماعة، ويلتزمون بإجماع العلماء.
ويكفي أن يُقال إنهم أمة (الإسلام)، وأنهم (مسلمون) دون إلصاق أية صفة أخرى بهم، فهذا هو الوصف الذي وصفهم الله ورسوله به، فلماذا العدول عنه إلى غيره، لماذا يُعدَل عن مصطلح (الإسلام) و(المسلمين) و(أمة الإسلام) إلى (السلفية) و(أهل الحديث) و(الأشعرية) و(الصوفية) وما إليها، أتفضيلاً لها على مصطلح القرآن والسنة؟ أم تمييزاً لها؟ ولكن تمييزاً عن ماذا؟ إذا كان تمييزاً عن الشيعة وغيرها من الفرق فإن تلك لها مسمَّياتها تُعرف بها، فلماذا نختار نحن أسماء أخرى لديننا وأنفسنا ونحن لا نأخذ سوى من الكتاب والسنة وإجماع المسلمين واجتهادات الفقهاء والعلماء المقبولين عند الأمة؟
ولمـّا سُئل مالكٌ رحمه الله: من أهل السنة؟ قال: "أهل السنة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به؛ لا جهميٌّ ولا قدريٌّ ولا رافضيّ" (الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء لابن عبد البر)، قال ذلك لأنه لا اسم لهم آخر غير الإسلام والمسلمين، ولم يعتبر (أهل السنة) تسمية، بل لقبًا أو صفة أو تمييزًا لهم عن الفرق الأخرى التي تسمَّت بمسمَّيات وهم لم يتسمَّوا بها. أو أنه اعتبر (السنة) من قبيل النهج أو الملَّة، وهو اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وذلك عندما سأله معاوية: أنت على ملَّة عليّ؟ قال: "لا، ولا على ملَّة عثمان، أنا على ملَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من أقرَّ باسمٍ من هذه الأسماء المحدَثة فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه" (غريب الحديث للخطابي).
وأنصح إخواني الذين يقولون إنهم على نهج الغزالي أو نهج ابن تيمية أو غيرهما أن يتخلوا عن هذا القول، وليقولوا إنهم على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم... وكفى. ومن كان من أهل الترجيح فليرجح، ويصير ذلك رأيه واجتهاده أيضًا.
وكذلك مصطلح الأشاعرة، الذي يدلُّ على عامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على مدى التاريخ الإسلامي. وهذا المصطلح نسبته إلى الإمام الجليل أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المتوفى سنة 324هـ، الذي انتصر لعقيدة الإسلام الصحيحة في مقابل المعتزلة، ونظَّرها وقعَّدها فيما يجمع بين أصولها وفروعها الكلامية في أوان انتشار الفكر الاعتزالي؛ ليكون متميزاً عنه بوضوح.
وجزى الله هذا العالم خير الجزاء... ولكن لماذا نطلق نسبته على دين الإسلام؟ إن دين الإسلام أجلُّ وأكبر وأوسع من أن يوصف باسم رجل أو قبيلته، إن هذا دين الله وحده، دين الإسلام، ومعتنقوه مسلمون، وكفى بهذا اسمًا له ووصفاً ولقباً، وليس هو دين الأشعري وحده، ولا الماتريدي وحده، ولا السلف وحدهم. وإنني لا أشعر بالرضى حتى من قبل بعض من يطلقون على الإسلام (الدين المحمدي)، إنه دين الإسلام الذي رضيه لنا ربنا، وهو الذي أطلق عليه هذه التسمية في كتابه صريحاً جلياً {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران:19] {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [سورة المائدة: 3]. فالذي رضي هذا الدين باسمه لنا ولمحمد صلى الله عليه وسلم ولعامة المسلمين من سلفيين وصوفيين وأشاعرة والعالمين جميعاً، هو الله ربُّ الجميع، فعلينا جميعاً أن نتقبَّله كما هو، دون تبديل أو تحريف، ولا زيادة ولا نقصان. وهو الذي كان مصرَّحاً به في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وهو مما ينبغي أن يعضَّ عليه بالنواجذ ولا يُختار غيره.
وأعود للتذكير بأن هذه المسمَّيات غير منزَّلة، وهي متعدِّدة، تفصل بين المسلمين، ودينهم (الإسلام) واحد لا يفصل بينهم.
أما تعبير (أهل السنة والجماعة) فلا أرى به بأسًا وإن كان في النفس منه شيء، وقد رضيه العام والخاص منذ بزوغه، وكأن هناك إجماعًا سكوتيًا عليه، وخاصة أنه لا يدلُّ على اسم معيَّن، بل هو بيان لنهج المسلمين إذا ذُكرت الفِرق.
ولا بأس كذلك من التعبير بـ (أمة محمد صلى الله عليه وسلم) فهي أمَّته حقًا، يقول ربُّنا سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} [سورة يونس: 47].
وأذكِّر أن تلك التسميات ليست بديلة عن (الإسلام)، ولكنْ تمييزٌ للمسلمين، فحتى (يُعرف) اتجاه المسلم العقدي يقال له سلفي، يعني (مسلم سلفي) و(مسلم أشعري).. وهكذا. ويعني في كلِّ الأحوال إلصاقَ صفات بمعتنقي الإسلام للتفريق بينهم، وهو لافتةُ الاختلافِ ولوحتهُ التي أدعو إلى التخلي عنها، وعدمِ وصف المسلمين بما يفرق بينهم. فكأن هذا يعني عدم كفاية لفظ (مسلم) له، بل لا بد أن (يميَّز)! يميَّز بما يختلف فيه المسلمون ويزيد من فرقتهم؟
إذن فهي دعوة صريحة للتخلي عن الألقاب التي توصَمُ بها طوائف ومدارس للمسلمين، وللعودةِ إلى الاسم الأصل دون غيره، عسى أن يخفف هذا شيئاً من الخلاف، ويزيدَ الشعور بين أهله بالأخوة والمحبَّة، ولو كانوا مجتهدين في مسائل مختلفة بينهم. وقد أُمرنا بالتوحيد والإخلاص، ونحن جميعًا من المسلمين.
فنحن (مسلمون) وكفى، لا (أشعرية) ولا (سلفية)!