الإنسان مغرم بوضع الحلول للأمور التي يراها أو يسمعها.
فما إن تقع عينه على شيء لا يعجبه حتى يقول: لو كان الأمر كذا لكان أفضل.
وحتى وهو يمشي دون أن يتكلم فإنه يقول في نفسه ذلك.
والأمر ليس مقصورًا على المشي والرؤية، بل هو ملازم للإنسان حتى لو امتدَّ على فراشه، وهو يفكر فيما لا أول له ولا آخر، وفيما هو واقع أو خيال، وفي نفسه أو في الآخرين، ويضع الحلَّ إثر الحلّ، وقد يترك إشارات استفهام وراء بعض المسائل ليعود إليها مرة أخرى، ثم لا يعود.
أما سماع الأخبار والقصص والأحداث والتحليلات فحدِّث ولا حرج عن تصويبها أو التعليق عليها أو تقليبها على رأسها!
فالأمر في هذا الشأن ممتدٌّ في حياة الإنسان وشؤونه كلها، في نفسه، وبين أسرته، ومع أصدقائه، وفي الشارع، والمكتب، والرحلة، وفي حياته المدنية والعسكرية كلها، وكأن الحياة عنده (بلدية) يناقش ويصوِّب ما يريد على خرائطها أو في أسواقها، إن كانت من اختصاصه أو من غير اختصاصه، وإن عرف أسبابها أو لم يعرفها، وإن اطلع على بعضها أو كلِّها!!
ولو حسبَ الإنسان في كلِّ يوم كم وضع من حلول لمسائل صغيرة تافهة، أو أمور دولية كبيرة، لأخذه العجب من نفسه!
ولو قرأت أي كتاب في أي فن من فنون الحياة، لوجدت فيه الحلول إثر الحلول، في الدين والفلسفة والتربية والاجتماع والسياسة والإدارة والاقتصاد والقانون واللغة والعلوم والفنون والآداب والتواريخ والآثار...
والحلول لا تختص بالصغار ولا الكبار، ولا بالعلماء أو الجهّال، ولا بالمتخصصين أو غير المتخصصين، فكلٌّ يدلي بدلوه..
وانظر في التاريخ وعدِّد النظريات التي طُرحت في الخلق والطبيعة وما فيها، لتتأكد من الحلول العديدة المطروحة من قبل الإنسان، وكثير جدًا منها فيما لم يره ولم يعلمه!! كأصل الإنسان، والحيوانات الضخمة التي انقرضت، والعصور الجليدية، وما يسمَّى بما قبل التاريخ، والإنسان القديم في شكله وأسلوب حياته، ودوران الأرض أو الشمس، والكواكب والنجوم، وأعدادها، وعمر الأرض والحيوانات والأسماك... الخ، لرأيت بعد جمع وتحليل نتائجها أن هؤلاء العلماء المتخصصين كانوا يضعون حلولاً وأجوبة متباعدة وأحيانًا متناقضة، ويؤلفون أجوبة حاضرة لأمور معقَّدة جدًّا، تبدو فجَّة بعد سنوات أو عقود من السنين، عندما تُكتشف آلات للتحليل أو الرصد. وكلمات مثل (ملايين السنوات) العادية أو الضوئية، منتشرة عندهم بدون أي حرج، مما يدلُّ على ظنِّية معلوماتهم لا حقائقها. {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [سورة النجم: 28]. فهم لم يشهدوا الخلق حتى يقولوا كل هذا الكلام المغلوط.
والإنسان لا يتوب من هذا، بل هو مستمرٌّ فيه، من أي ملَّة كان!
إذًا فوضع الحلول (ظاهرة) في الإنسان لا تخفى، وليست هي أمرًا عارضًا.
ومع ذلك لا أعرف أنها دُرست أو كُشف عن سرِّها!
وهذه إشارات ضوئية (إسلامية) ألقيها على هذه الظاهرة:
وأولها هو ما يتعلق بطبيعة الإنسان، من أنه مستعدٌّ للخوض في الأمور ولو كانت مجهولة، فيعلن راية الاستكشاف عنها، عسى أن يعرف حقيقتها، وهي طبيعة خلقها الله في الإنسان ليستكشف بها الطبيعة وأسرارها؛ ليستدلَّ بها على وجود الله تعالى وعظمته وإبداعه. وهو بهذه النفس المتوثبة، المتحفزة، المتحرشة، قد يقع في مطبات ومجاهيل لا يعرفها، ومع ذلك فهو يتقحَّمها، ولهذا فهو (ظلوم) و(جهول) عندما قبلَ عمارة الأرض، مع القيام بالتكاليف والفرائض التي كُلِّف بها، وكانت ثقيلة حتى على السماوات العظيمة، والأرض الغنيَّة الحيَّة، المتميزة من بين جميع الكواكب، والجبال الشاهقة العظيمة الممتدة والغائرة في الأرض!
يقول ربنا سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [سورة الأحزاب: 72].
أي أنه كان بقبوله ذلك مُفرِطًا في الظلم لنفسه والإضرار بها، مبالغًا في الجهلِ بما قَبِلَه، مُعتدًّا بنفسهِ عندما وافق على شروطِ هذه الأمانة الصعبة.
وهو نفسه الإنسان الذي يسرع إلى الإجابة على أصعب الأسئلة التي تُطرح في الوجود، ولا يستحي أن يتراجع عنها بعد ذلك عشرات المرات، ويضع لها حلولاً أخرى، عسى أن ينجح في واحدة منها.
والإشارة الضوئية الثانية تتعلق بما قبلها، وهي طبيعة الإنسان العجول، فهو يتعجَّل في معظم أموره، ويتلخص أمره في أنه إذا خرج من البيت تعجَّل ليصل بسرعة إلى مكان عمله، ويعود وهو يتعجَّل كذلك الوصول إلى بيته وأهله!
وطبيعة العجلة تتعلق بالتدافع والتصارع في الحياة، ولها علاقة بطبيعة الحياة الإنسانية، وعمران الأرض والحضارة والمدنية.
يقول ربنا سبحانه وتعالى في طبيعة الإنسان هذه: {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [سورة الإسراء: 11].
أي أن الإنسان عَجول بطبعه، يسارع إلى ما يظن فيه مصلحته، وإن كانت تحمل ضررًا بعد النظر، وهو غير مطَّلعٍ على عواقب الأمور حتى يضبط قيادة العجلة في نفسه.
وكذلك هو في أجوبته التي تُطرح في الحياة، فهو يرفع أصبعه ليجيب على كل أسئلة الوجود، ولو لم يعرفها، ويسميها "نظرية" حياء أو غطرسة وغرورًا!
إن أي شخص منا يستطيع أن يعرف هذا عندما يخرج من مجلس ويتذكر كم طُرح فيه من مسائل ومعها حلولها المختلفة، وكثير من هذه الأجوبة يُحسب من قبيل الهزل، لسطحيتها وخفَّتها، وأصحابها يعرفون ذلك، ولكن الأمر يتعلق بعمق النفس البشرية في طرح الحلول، وتكريسه فيها، واستعدادها لملء الفراغ بأي جواب، ولو كان متعجلاً، تافهًا، غير مقبول.
أما الصحافة، والساحة الإعلامية بشكل عام، فلا أظنك تجرؤ على عمل إحصائية لما يطرح فيها من حلول لا تُحصى، ولو ليوم واحد.
وستجد نتيجتها جنون الإنسان ورغبته اللامتناهية في وضع الحلول للمشكلات البشرية، وحتى الحيوانية، والطبيعية، وما وراء الطبيعة أيضًا!!
ونظرياته وحلوله في ذلك لا تنتهي!
الإشارة الضوئية الثالثة تتمثل في موقف الإسلام من هذه الحلول، وهي مهمة.
لنقل إن ظاهرة الحلول لدى الإنسان ليست طيفًا عابرًا غير مؤبه به، ولا هي مهملة في الإسلام، ولا هي ماضية بدون حساب.
إن الحلول التي يعرِّض الإنسان نفسه لها، تكون إما نفسية، أو ظاهرة.
فالنفسية هي التي تعتلج داخل الإنسان ولا تَظهر، فإذا فكَّر الإنسان في أمر عابر، ومعه حله، ولم يتقصَّده، ولا هو قبله، فهو من قبيل ما حدَّث به نفسه، وهو معفوٌّ عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عند البخاري وغيره: "إنَّ اللهَ تجاوزَ عن أمَّتي ما حدَّثتْ به أنفسَها، ما لم تعملْ أو تتكلَّم".
أما الأمور الظاهرة، وهي التي يتكلم فيها الإنسان، ويبدي رأيه فيها، فالمسلم يلتزم أمر الشرع، ويجب أن تكون الحلول التي ينطق بها كلها موافقة للإسلام، وخالصة لله تعالى، ولا يُقبَلُ عمل للمسلم بدون هذين الشرطين. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف:110].
ومن أجاب بما لا يعلم، أو بما لا يوافق الشرع، فإنه يتحمَّل إثمًا.
والسكوت أولَى بمن لا يعلم، فلماذا يتكلف الشخص جواب ما لا يعرفه؟ لماذا يهزل ويضحك بينما يكون في جوابه مخالفًا لشرع الله؟
وليتفكر المرء بكل هذا الكلام في المجالس والاجتماعات والمؤتمرات ومراكز التعليم ووسائل الإعلام، والتهافت على الفتوى ولو كان في ذلك خطورة... وليعلم أن وراء كل ذلك حسابًا، ولكن كم من الناس يعتقدون ذلك، أو يلتزمون به، أو يعتبرون؟
والمهم هنا الذكرى، فمن انتهى فقد اعتبر، ومن لم، فقد ظلم نفسه.
وأذكِّر بقمة البحث العلمي في الإسلام، وهو أن لا يتكلف المسلم ما لا يعلم، ولا يقلد بذلك مفكري الغرب في نظرياتهم التي لا دين لها.
يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء: 36]
أي: لا تتَّبعْ ما لا علم لك به، ولا يَختلط عليك الوهم واليقين، فيَلزَمُ التثبُّت من صحة الخبر والواقعة، ولولا ذلك لاختلط الحقُّ بالباطل، وأُخِذَ الناس بالظنِّ والخبر الواهي، وجوارحُ الإنسان أمانة عنده، كالسمع، والبصر، والفؤاد، فكلُّها مسؤولةٌ تُحاسَبُ على وظيفتها.
والأجوبة والحلول التي يقدِّمها الإنسان تصبُّ في هذا الجانب من حياته، فهو مسؤول عنها.
فلا يلقي المسلم كلامه جزافًا، ولا يجيب عن رغبة وهوى وخيال فاسد ورؤى شخصية أو تقليدية، وما لم يقدر عليه تركه، أو سأل أهل الذكر عنه، وإذا لم يجد المتخصص الجواب اجتهد، على ألا يخالف قواعد الشرع.
10/11/1436هـ.