نظر إليَّ صاحبي وقال بقلب كسير وصوت ضعيف: أرأيت ما قاله البارحة ذلك الداعية المعروف؟
ولا أدري هل تجمَّدت أعصابي أم انهارت آنئذ، وأنا أتذكر جيداً ما صرَّح به ذلك الداعية، الذي كان ملء العين والقلب، وأملاً من آمال الصحوة، ونجماً يسطع في سماء الإسلام، ومضرباً للمثل في دينه وتقواه عند العام والخاص، فإذا به يشيد بسلطان جائر، قد فتك بالمسلمين وقادة الدعوة، وكتم أنفاس أهل الإسلام عامةً في بلده، ولكنه أثنى عليه لأمرٍ صادف خيراً، وكأنه نسي ما كان منه من أعمال شائنة تملأ صحيفته السوداء، وأحكام جائرة فرضها على أهل بلده أغضبت المسلم وغير المسلم، لا تلائم عصراً، ولا قوماً، ولا ديناً، ولا أدباً!
وبقي صاحبي ينظر إليَّ وهو ينتظر جواباً، وأنا مندهش من ذلك الداعية، ولا أدري ما الذي حدث له، ولا أظن أنه أراد بذلك مالاً أو جاهاً، بل ربما أفقده ذلك أحب شيء إلى العالم، وهو تلامذته ومحبوه!
وأجبت صاحبي بشيء من كلام، ثم وقع في نفسي أن أنظر في أسباب انحراف العلماء المخلصين، العاملين، المحبَّبين إلى تلاميذهم... فلن يكون الحديث عاماً في هذا، يعني ليس العلماء كلهم، بل هو في أسباب انحراف العلماء المخلصين الطيبين، أما المنحرفون أصلاً، والذين يبتغون المال والمنصب، فأسباب انحرافهم ظاهرة، وليس هو من شرط بحثنا.
- فمن أسباب ذلك لدى بعض العلماء والدعاة: قلة تحصيلهم العلمي، الذي لا يخولهم التحدث باسم الإسلام، ومع ذلك ترى بعضهم يتسلمون مراكز قيادية في الدعوة، ومجالس في التدريس والإفتاء والوعظ بواسطة أو غيرها، ومنهم من لا يتابع تحصيله العلمي على العلماء، ويكتفي بشهادات لا تُغني، وجامعة لا تخرِّج علماء، وكتب يتثقفون منها... ومع ذلك يدلون بدلوهم بين العلماء وفي القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية المتنوعة، وقد يتعصب بعضهم لرأيه في اجتهاد غير أهلٍ له، أو لقول شاذ رآه، ثم تنتشر فتواه أو رأيه في كذا، ويذيعها العلمانيون والحداثيون خاصة لدخيلة في نفوسهم، فهذا نوع انحراف أو زعيق وتشويش، وما هؤلاء إلا كفراريج تصيح بين الديكة، ولكن أصواتها تُسمع أيضاً، وإن كانت قبيحة جداً، وإن لأصوات الفراريج في عصرنا لواقط صوت تكبرها وتوصلها إلى آخر الدنيا، بينما هي لا تسعى إلى إيصال أصوات الديكة والنسور والأسود!
- هناك علماء أخذوا العلم بعقولهم ولم تتشرَّب به قلوبهم، ويكون هؤلاء قد درسوا لفرص أتيحت لهم، أو أن آباءهم وضعوهم في مدارس دينية فتابعوها هكذا، أو أنهم كانوا مع أصدقاء درسوا الدين فدرس معهم، أو أنه تتلمذ على علماء لا روحانية عندهم، فيكون تعلمه للدين كتعلمه مادة الرياضيات والجغرافيا والكيمياء، يعرف أحكام الطهارة والمواريث والحج، ويعرف أصول العقيدة كما يعرف أصول النحو والصرف. فهؤلاء وأمثالهم غذيت عقولهم بالعلم ولم تتفاعل معه قلوبهم في جانبه الأساسي كما يأتي، فإذا تعرَّض لحوار مكثَّف من بعد، ودخل في بيئة سياسية واجتماعية جديدة تفاعل معها وتأثر بها، وربما اعتنق أفكارها، ولو كانت منحرفة وضالة ومناقضة لعقيدة الإسلام، فهو لم يتربَّ تربية إيمانية حقيقية مع تعلمه أحكام الفقه وتلقيه دروس العقيدة وعلوم القرآن والحديث... ولذلك نرى بعض العلماء ينحرف بانتمائه إلى أحزاب علمانية واشتراكية، بل يصير في قيادتها ولجانها المركزية، كما حدث لشيخ من شيوخ الأزهر، وقس على ذلك علماء للسلطة من المهيئين لإصدار فتاوى ملائمة لما يطلبه حكامها، لإرضائهم، مع الثناء عليهم في مناسبات عديدة، ولو كان في ذلك غضب الرب ومقته. بل أصبح بعض العلماء شيوعيين، وإن كان هذا نادراً جداً، ولكنه يقال، فالردة واردة.
والفقرة السابقة تذكرنا بموضوع آخر تطرَّقت إليه أكثر من مرة، وهو أن العلم بالخشية، يعني أن العالم الحقيقي المقبول عند الله هو من استفاد من علمه وأوصله هذا إلى خشية الله وتقواه، وما لم يكن كذلك فما الفائدة منه، فإن الغاية من العلم هو إرضاء الله تعالى، يقول ربنا سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [سورة فاطر: 28]، فمن لم يخش الله فليس بعالم حقيقي وإن كان حافظاً للقرآن، أو فقيهاً يجاوب على كل أسئلة الناس، وتكون نتيجته أنه عالم غير تقي، لا يخشى الله، فهو منحرف.
وبعض هؤلاء تراودهم شكوك، وقد تبقى معهم ويكبرها الشيطان في نفوسهم، فإذا لامست محاورة أو كتابة من ملحد أو مستشرق أو كتابي، قويت عنده، فانحرف، وضعف إيمانه.
والأمر كله بيد الله عز وجل، وهو سبحانه إذا رأى عزيمة ورغبة من المرء في الإيمان والعمل الصالح وفقه إليه وإيده، وإذا رأى منه زيغاً وعزيمة إلى الشرّ أضلَّه، فانحرف وازداد غواية. وهو معنى قوله تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} [سورة النحل: 93].
- ومن أسباب انحراف العلماء الاجتهاد والتأويل في نوازل لم يرد فيها نص قطعي، فيتأول ما هو أقرب إلى طبيعته ومنهجه في الحياة ونظرته إلى المجتمع، ولو خالف بذلك فقهاء وأعلاماً من عصره، وقد تمادى بعض العلماء في تأويلات حتى صاروا في جهة الفِرق.
- الاغترار والجرأة. فبعض الدعاة الذين أخذوا حظاً من الشهرة، ورأوا إعجاباً وإقبالاً من الناس، يصيبهم شيء من الغرور والعُجب، فيجترئون على الخوض في مشكلات ووقائع عديدة، لا يحالفهم الحظ في إصابتها جميعاً، فتبقى سيرتهم "مرتبكة" ويتأرجحون بين التوفيق والنقد، ويحاولون الحفاظ على مناصبهم الدعوية بين الناس، مع عدم إغضاب أنصار الحكم المنحرفين. وقد لا يبقى الأمر على حاله هكذا، فإما إلى هؤلاء وإما إلى هؤلاء.
وأشير إلى أن العُجب أهلك دعاة وانحرفوا حقيقة، مثل عبدالله القصيمي، الذي رجَّح أكثر من باحث إسلامي أن سبب ردَّته وإلحاده كان العُجب، وقد كان من قبلُ عالماً متبحراً ذا حجة قوية.
- التعصب للرأي. ينبغي للعالم أن يحترم الآراء والاجتهادات الأخرى للعلماء في قضية خلافية، ولا يتعصب لرأيه الذي يخالفهم به، فإن التعصب يؤدي به إلى الخروج من السكينة، وعن الاجتماع، ويفرِّق صفوف المسلمين، ويوقع بينهم النزاع والبغضاء والشقاق، فيكون ضرره أكثر من نفعه. وقديماً كانت بعض الخلافات المذهبية مؤلمة للمتعصبين فيها فقط، مثلما قال قاض وفقيه حنفي متعصب: لو كان الأمر بيدي لضربتُ الجزية على الشافعية! ولكن هذا ليس من شأن العلماء الحلماء الأكارم، الذين يريدون قوة المسلمين وعزتهم وجمع كلمتهم، وهو منهم.
وفي عصرنا نرى بعض الأفراد في حركات إسلامية متعددة يخوضون نقاشات وحوارات وجدالات لا نهاية لها، وهي لا تأتي بخير، وكل يرى الحق عنده، ولكن الخير فيهم جميعاً ماداموا قائمين على القرآن والسنة وإجماع أهل الإسلام، وما عدا ذلك فليعذر كلٌّ الآخر.
- المال والشهوة. إن العالِم مبتلى، في دينه وماله وأهله، لينظرَ الله في علمه وعمله، فإذا صبر وعضَّ بالنواجذ على الحق، أيَّده الله وصبَّره وفرَّج عنه، وإذا لم يصبر وانجرف مع أهل الباطل، فمن نفسه الأمّارة بالسوء.
ولا شك أن المرء يحب المال حباً جماًّ، ويريد له ولأولاده حياة أفضل وأسهل مما هو فيه، ولكن لا يكون ذلك على حساب دينه، والحكام لهم طرق في إغراء أهل العلم المخلصين وجذبهم إلى طرفهم، ليكون ذلك دعماً لمناصبهم أمام العامة والخاصة، وليقال إن فلاناً العالم المشهور يعمل معهم!!
وأذكر من مطالعاتي أن رجلاً عالماً أُثني عليه لتقواه وعلمه عند أحد خلفاء المسلمين، فطمع في أن يلي له القضاء، ولكن لم يفعل، خوفاً من تبعاته، وحاول معه مرة أخرى دون فائدة، فقال لأحد أصفيائه إنه لا حلَّ إلا بالحيلة عليه. فدعاه مرة إلى العشاء، وأمر بأحسن وألذ أكلة في بيت الخلافة، وقدَّمها له، فرأى ذلك العالم ما لم يره في حياته، فأقبل عليه بنهم، حتى قضى جوعته وزيادة، ولما مضى قال ذلك الخليفة لصفيه: لقد أكل فلان أكلة لا نجاة له بعدها. وما إن طرح عليه فكرة القضاء هذه المرة إلا وقد استجاب!!
ثم إن ترك المنصب صعب، يعرفه من جرَّبه، فيكون مأموراً بعد أن كان آمراً، ويكون منبوذاً أو (عادياً) بعد أن كان مبجلاً ومحترماً... فيؤثر المنصب ويحدِّث نفسه بأنه سيحسن ما قدر على ذلك، والحق أنه ينفذ أمر السلطان كيفما كان، بحجة الطاعة، والتأويل في ذلك... فتصبح حياته تأويلاً... وظلماً، نعوذ بالله من التردي في هذا.
- التأثر بالإعلام المضلِّل. إن العالم والداعية مثل غيره يتأثر بالإعلام الذي يُذاع ويُبثُّ ويُكتب، وقد يصدِّق أشياء غير صحيحة، ويعتقد بها اعتقادًا جازمًا، ثم يكتشف أن كلَّ ما قيل حول ذلك زيف وتضليل وتهويل لتحقيق أهداف معينة!
وإن حشدَ أكبر العقول في الدولة، وتسخير طاقاتها لنشر وتأييد أفكار مضللة، وخاصة إذا استمرَّ فيها والتُزم بها، كرفع رايات أحزاب علمانية تنادي بأفكار ثورية مكررة وجوفاء لبلوغ السلطة، وتسهل الأمور لمن يتبعها بصلات ومناصب... يؤثر أيَّما تأثير فى الشعوب.
وينبغي أن يكون أهل العلم والدعوة مسلَّحين بالعلم ومحصَّنين بثقافة إسلامية تمنعهم من الانجراف وراء كل ناعق، فإن ميزانهم معهم أينما كانوا، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يعرضون كل ما يأتيهم من أفكار وأقوال وأعمال عليهما، ويردُّون كل ما خالفهما، فهم لديهم مصدر خاص، و"إعلام" خاص يستقونه من دستورهم، ولا يتخذون سواه دليلاً لهم...
ولكن الذي يحدث أن فئة من العلماء والدعاة يصدِّقون ما يُقال من كذب وتهويل حول زعماء وأفكار وأحداث.
وأذكر أن دولة سخَّرت كل إمكاناتها الإعلامية والدعائية لرفع شأن رجل (لا أصفه) وخلطت صدقًا بأكاذيب، فتأثر بذلك عالم ومفكر إسلامي كبير، وصرَّح بأنه ودَّ لو كان كذا عنده! ولمَّا هدأت العاصفة وذُكِّر، وعلم أن المقصود تحقيق أهداف طائفية وحزبية، اعترف وندم، ورجع عمَّا قال!
ولو قارنت كتب ذلك العالم ودراساته ومحاضراته وتوجيهاته للشباب والمسلمين عامة على مدى عقود من الزمن، بما وقع فيه وزلّ، لأخذك العجب... ولكنه الإعلام المضلِّل الذي يُفسد الملايين من البشر، ويطوِّعهم لشائعات وحروب نفسية، كما يجنِّدهم لحروب قتالية... وينخدع بها من لم تكن له قاعدة سياسية واطلاع على الأحزاب والاتجاهات السياسية ودخائلها، والعلماء الذين لا شأن لهم بالسياسة، ولا اطلاع لهم، أو لا وقت عندهم للاطلاع على الأحوال السياسية، عليهم أن يلتزموا تخصصاتهم العلمية بدل الوقوع في أخطاء لا تليق بمكانتهم.
هذا... وكيف بمن كان أقلَّ شأنًا من ذلك العالم ثقافة وتدينًا؟
إن الذين ينجون غالبًا من هذه الشائعات والتضليل الفكري هم الذين يجتمعون دوريًا، فيربُّون ويحلِّلون الأحداث كما يأتيهم من قيادات سياسية عليا، وينبهون إلى الأكاذيب والتضليلات، وكل ما كان من غزو فكري.
وينجو منها كذلك من كان نبيها فطنًا –وليس جزعًا متعجِّلاً- فإنه يسأل عن مصدر الخبر ليتثبت منه، ولا يصدِّق كل ما يقوله غير المؤمن، ويشك فيما يبثه الفاسق غير الملتزم بالحق، كما قال ربنا سبحانه في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [سورة الحجرات: 6].
ولا شك أن من يصدِّق أو يتَّبع إعلامًا منحرفًا، يوصَمُ بالضلال والانحراف، ولو بنسبة معينة.
والفقرة التالية تكمل سابقتها.
- ليس كل عالم سياسيًا، فإذا دخل في السياسة بدون مجداف غرق، وخاصة في هذا العصر، الذي تعدَّدت فيه أفانين السياسة، وخفيت أسرارها، وتداخلت دهاليزها، لا يعرفها إلا من مارسها وكان مسؤولاً قياديًا فيها، فهي تحتاج إلى خبرة طويلة، واطلاع واسع، وعلاقات مع مسؤولين محليين أو دوليين، وهذا ما يفتقده معظم علمائنا ودعاتنا المخلصين، الذين لا يُسمح لهم باعتلاء مناصب عليا في الدولة، وفي العلاقات الخارجية، وفي الأمن والسياسة خاصة.
فإذا تكلم فيها وأبدى رأيه في بعض قضايا الساعة لم يوفق في كثير منها، بل ربما أبدى رأيًا مبتسرًا، وتحليلاً ساذجًا لأمور، أو أن بعض أفراد الدولة أقنعوه ليصرِّح بما يوافق رأيها، أو موافقة آراء دول كبرى لأنها من رأيها، أو يقول شيئًا ضد حركات أو أعلام بارزين، فيقع في مهاوي السياسة وألاعيبها، وهو لا يدري أنه لُعب به، ويستدرك هذا على نفسه بعد حين، ولكن بعد أن فقد ثقة المخلصين به، وهذا ما خطط له الآخرون!
- وأذكر أن اتباع كل قاعدة سهلة، واختيار كل ما هو سهل وميسَّر، دون اعتبار العزيمة في كل أمر، قد يكون فيه نظر ما. والقول هنا لأهل العلم والأصول.
إلا أن تتبع الرخص يوقع في التفسخ والانحلال، كما أن رفضها يوقع في الغلو... والوسط هو المطلوب، حتى لا يوصَم المرء بالانحراف والميل إلى أي منهما دون الآخر.
- المداهنة. وهناك أمر بالغ الأهمية، قد لا يفطن إليه العلماء إلا بعد أن يكونوا قد مضوا في حكم الحكام الفاسدين!
فالعالم المخلص يحب جريان أحكام الإسلام في الحياة، ويريد من المسؤولين التفاعل مع دعوته... ولأهل السلطة خبرة وتفنن وحيل في جذب الناس إليهم، وخاصة الوجهاء والقادة والأثرياء والشيوخ، وهذا ما كان من شأن المشركين مع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، الذين جاذبوه أطراف الإغراء ليترك دعوته ولكن دون فائدة، فطلبوا حلولاً وسطاً، ليتنازل ويتنازلوا، يقول ربنا عزَّ وجل: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [سورة القلم: 9]، أي: تمنَّى المشركون أن تلين لهم وتصانعهم في دينك، فيلينون لك ويصانعونك في دينهم!
فكان هذا تنبيهاً ربانياً لرسوله الكريم ألاّ يتنازل عن الحق أبداً مهما أبدى المشركون من لين، وإنما يصبر وينتظر مع المضي في الدعوة.
وهذا هو حال حكومات معاصرة مع دعاة قادة، الذين يعِدونهم خيراً، ويفرجون عن أنصار لهم، وقد يساعدونهم، أو يفتحون أمامهم قنوات إعلامية، مع استقبالهم واحترامهم نوعاً ما، ولكن دون أي تقدُّم في تطبيق شعائر الدين... أي أنها تشريفات ومجاملات وممارسات شكلية لا عمق لها.
فليكن العالم على حذر، ولا يداهن في الدين أبداً، فإنه دينُ الله وليس دينه، وليس له أن يأخذ أو يذر ما يشاء منه. وليعلم أن زلة العالم زلة أمة، وأنه بصنيعه هذا في التنازل عن أحكام في الدين، قد يجرف معه كمًّا هائلاً من الناس، يعتقدون باعتقاده، فيكون عليه إثمه وإثمهم جميعاً، ويضرُّ نفسه والآخرين، والموعدُ يوم الحساب، والحاكم الواحد القهار.
ولا يغترَّ داعية أو عالم بنفسه، ولا بتاريخه العريق في الدعوة والعلم، وصبره على ذلك في الحياة وفي السجون، فإن كيد الأعداء وأحابيلهم تربك المرء وتزعزعه، لا لمغريات دنيوية، بل لسياسات ومناورات تتعلق بما يطلبه العالم والداعية، ولكن وراءها أمور قد لا تُدرك في الحال.
وهذا درسٌ من القرآن الكريم، والمخاطِبُ هو الله العليم الحكيم، والمخاطَبُ هو رسولُ ربِّ العالمين محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول له ربُّه عز وجل: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [سورة الإسراء: 73]، أي: كاد المشركون أن يوقعوك في الفتنة، ويَصرفوك عما أوحيناه إليك من الأحكام، لما يراجعونك فيه ويقترحونه، ويطلبون منك أن تختلق على الله غير ما أوحاه إليك، ولو وافقتهم على ذلك لاتخذوك صديقاً وولياً لهم.
ثم يقول له سبحانه وتعالى ما معناه: ولو لم نثبِّتك على الحقِّ لكدت أن تميل إليهم شيئاً قليلاً؛ لشدة كيدهم واحتيالهم!
فليتنبَّه إلى هذا، فإنه مهم.
قال الله تعالى بعدها: {إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً}.
أي: لو أنك ملت إليهم يا محمد ولو شيئاً قليلاً، لأذقناك عذاباً مضاعفاً في الحياة الدنيا، وعذاباً مضاعفاً في الحياة الأخرى، ثم لا تجد معيناً يمنعك من عذابنا.
وقد عصم الله رسوله الكريم من فتنة المشركين والركون إليهم. وهذا درس كبير للمسلمين بعدم التنازل عن شيء من أحكام دينهم، فهو نظام متكامل لا يصلح التفريط بجزء منه، وفرقٌ بين العزّة بالإسلام والفخر به، وبين التنازل عنه أو بعضه.
- وهذا ما يجعلنا أن ندخل في سبب آخر من أسباب انحراف العلماء أشير إليه في الفقرة السابقة، وهو: التقدير والاحترام.
فمن المعروف أن العلماء والدعاة مهملون في الدول الإسلامية، ولا يعطون حقوقهم، بل يضيق عليهم في حياتهم ووظائفهم وأموالهم، بل ويحقَّرون ويُطردون ويسجنون ويعذبون، والعكس نادر جداً، فإذا رأيت عالماً وداعية قيادياً مخلصاً تتودَّد إليه الدولة وتحترمه وتقدره، فاعلم أن هذا أمر مستغرب لن يكون بلا نهاية!
وقد حدَّثني من أثق به أن عالماً كبيراً على مستوى العالم الإسلامي اشتهر جداً وأحبه الناس لعلمه وإخلاصه، فأرادت الدولة أن تستميله ليكون في جانبها، وخاصة أن الحاكم قد ظلم وتمادى في ظلمه دعاة الإسلام، فجنَّدت له جيشاً من المخابرات ذوي دراية وخبرة إسلامية، فكانوا يرافقونه في دروسه ومواعظه وخطبه ومحاضراته، ويسألونه ويبدون تأثرهم به وبأفكاره، ويخلطون معه السياسة بالدين، ثم يطلبه الرئيس، فيجلس معه ومع بعض أسرته، ويسألانه أسئلة دينية، والرئيس نفسه يحترمه ويقدِّره، حتى انجرف معهم، وصار يثني على مسؤولهم الكبير، وكأنه بذلك يقول كلاماً طبيعياً مما رآه بعينه وسمعه بأذنه... فتدنَّت مكانته بين الناس كثيرًا، وتركه معظم تلامذته، حتى نبهه بعض أحبابه المخلصين السابقين بحكمة ولين، وشفقة عليه وعلى علمه ومكانته، فتذكَّر وتنبه، وقال: إنني أشعر بما وقعت فيه، ولكن والحمد لله عقيدتي سليمة لم يصبها شيء!
إن عمل المعروف مع شخص محتاج أو مهمل يطوِّق عنقه ويجعله كالعبد، فيجد صعوبة بالغة في ردِّه أو نقده، فليحذر الدعاة والعلماء من هذا، وليقتنعوا بما هم فيه من بُلغة، ولا يداهنوا في الحق أبداً، فإن رسالتهم في الحياة هي قول الحقّ، ومن أجل أن يسود الحقّ، ولوجه الله الحقِّ.
ولا يركننَّ أحدٌ من العلماء والدعاة إلى الحكَّام الظالمين، فإنَّ الله تعالَى يقول: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [سورة هود: 113].
أي: لا تَسكُنوا إلى أهلِ الظُّلمِ ولا تَرضَوا بظُلمِهم، لا تَميلوا إلى الجَبّارينَ الطُّغاةِ الذينَ يَظلِمونَ عبادَ الله، ولا تَستَعينُوا بهم، ولا تَستَنِدوا إليهم، فتَكونوا كأنَّكمْ قدْ رَضِيتُمْ بأعْمالِهم، ويكونُ ركونُكمْ إليهمْ إقرارًا لهمْ على ما يُزاوِلونَهُ منْ ظُلمٍ ومُنكَر.
قالَ القاضي البيضاويُّ في تفسيرِه: لا تَميلوا إليهمْ أدنَى مَيل، فإنَّ الركونَ هوَ المَيْلُ اليَسير، كالتزَيِّي بزِيِّهم، وتَعظيمِ ذِكرِهمْ واستِدامَتِه.اهـ.
وقالَ صاحِبُ "روح المعاني": فما ظنُّكَ بمَنْ يَميلُ إلى الراسِخينَ في الظُّلمِ كُلَّ المَيل، ويَتهالَكُ على مُصاحَبتِهمْ ومُنادَمتِهم، ويُتعِبُ قَلبَهُ وقالَبَهُ في إدخالِ السُّرورِ عَليهم، ويَستَنهِضُ الرِّجْلَ والخَيلَ في جَلبِ المَنافِعِ إليهم، ويَبتَهِجُ بالتزَيِّي بزِيِّهم، والمُشارَكةِ لهمْ في غَيِّهم، ويَمُدُّ عَينَيهِ إلى ما مُتِّعوا بهِ مِنْ زَهرَةِ الدُّنيا الفانيَة، ويَغبِطُهمْ بما أُوتُوا مِنَ القُطوفِ الدانيَة، غافِلاً عنْ حَقيقَةِ ذلك، ذاهِلاً عنْ مُنتَهى ما هُنالِك!
قال: ويَنبَغي أنْ يُعَدَّ مِثْلُ ذلكَ مِنَ الذينَ ظَلَموا لا منَ الرَّاكنينَ إلَيهم، بِناءً على ما رُوِيَ أنَّ رَجُلاً قالَ لسُفيان: إنِّي أَخيطُ للظلَمَة، فهلْ أُعَدُّ مِنْ أعوانِهم؟ فقالَ له: لا، أنتَ منهم، والذي يَبيعُكَ الإبرَةَ مِنْ أعوانِهم! اهـ.
فإذا فَعَلتُمْ ذلكَ تُصيبُكمُ النارُ بسَبَبِه...
والله يحفظُ عبادَهُ المؤمنين الصالحين المتَّقين.