كتب الأستاذ سيد قطب رحمه الله مقالاً رائعاً بعنوان (قوة الكلمة)، ولكن لم يكتب هو أو غيره عن (ضعف الكلمة)!
كتب المقال المذكور بعد أن نثر كثيراً من مقالاته في الصحف والمجلات، وحاضر وناقش ودعا، ولكن كأنه لاحظ فتوراً في الاستجابة، أو عدم تأثير، فكأنه حدَّث نفسه أن: ما الفائدة من هذا الكلام كله إذاً؟! ثم جاء الوقت الذي جنى فيه ثمرات مما كتب وقال، في أماكن وأزمنة مختلفة، ولمس ما تفعله الكلمة المخلصة القوية، وكيف أنها تدغدغ القلوب، وتثير العقول، وتحفر في النفوس!
ومنذ سنوات مضت رأيت كتابات وفتاوى لعلماء، ولكن كثيراً من المسلمين والشباب خاصة لا يعملون بها، بل صار بعضهم لا يأبهون بكلماتهم، بعد أن رأوا علماء مثلهم يقولون بغير قولهم، فكأنهم صاروا يشكُّون فيما يقولون!
فالمسألة متشعبة إذاً، وتحتاج إلى دراسة وتمحيص، وأمثلة وشواهد، ودراسة جدوى ورجع صدى، والذي أكتبه هنا تنبيه وتذكير فقط.
- فمن ذلك ألا يكون المتصدر للعلم والفتوى عالماً بحق، ولم يُجَزْ من علماء أجلاء، ولم يشهد له أهل العلم والأقران بالتفوق والنبوغ والحكمة، ومع ذلك تراه مقدَّماً في وسائل الإعلام المختلفة، ويجيب على أسئلة المستمعين والمشاهدين من كل نوع!
وقد رأيت شيخاً فاضلاً فعل ذلك، ودخل في مسائل عويصة، وخالف بعض الأعلام، وأفتى في نوازل يتوقف فيها فطاحل العلماء، فلقي عنتاً وجفوة وصداً من طلبة العلم والعلماء، فدافع عن مواقف له، وتراجع عن بعضها.. مما عرَّض نفسه للكلام، وسمعته للتشوه، وشخصيته للاهتزاز، فبقي ضعيف الكلمة بين الجمهور، ضعيف التأثير فيهم.
- ومن ذلك التشدد، والصدور عن مذهب واحد في الاجتهاد والقياس، دون ذكر الخلاف الذي قد يكون فيه رحمة، ودون التعويل على اجتهادات وفتاوى أخرى للعلماء في الموضوع، ولسان حال هذا الاتجاه يقول: هذا هو الحكم في الإسلام دون غيره، ومن لم يعمل به فهو آثم.
وبما أن الناس يبحثون عن السهل والميسَّر، وخاصة في هذا العصر، ويرون علماء آخرين يفتون بغير هذا، في بلدهم أو في بلدان أخرى من العالم، وبعضهم يفصِّلون في الأمر، ويذكرون وجه الحرمة أو الحل أو الكراهة في المسألة الواحدة بحسب الظروف والأحوال والأسباب، فإنهم يتجهون إليهم، ولا يأخذون كلام العلماء السابقين وأحكامهم بجدية كاملة، ويرون فيه تشدداً أو مبالغة، وأنه كان عليهم أن يذكروا وجوه الاختلاف والتفصيل على الأقل، وهذا ما يجعل كلامهم ضعيف التأثير.
- ومن ذلك علماء السلطة، وهم درجات، والمقصود هنا من ينظر إلى رضا الحاكم ولو كان في ذلك غضب الرب، ولا يذكر الأمر ولو كان حقاً إلا إذا كان مسموحاً له من قبل السلطان، فهؤلاء لا أرضية لهم أصلاً، أعني لا شعبية لهم، وأعني كذلك أنه لا يوثق بهم وبكلامهم، بل ينظر إليهم على أنهم ألعوبة تتحرك كما يلهو بها الحاكم، وأن لا علاقة لهم بدين الله القويم إلا شكلاً وحركات، والله أعلم بالباطن.
والأمثلة على ذلك كثيرة في عصرنا المظلم، وخاصة عند مفتيي الدكتاتوريين، وآخر ما سمعت من ذلك قول مفتي قطر إن النصارى ليسوا كفاراً!! وأنه لا يوجد نص في القرآن ولا في السنة يفيد ذلك!! قال ذلك لوفد أو مجموعة نصارى جاؤوا إلى بلده.. فقام الناس عليه من كل صوب، حتى بعض علماء السلطة أنفسهم، وسمَّوه (القس) فلان، بدل (المفتي)، حتى لم يجد مفراً من التراجع عن كلامه! فهذا يدل على جهله بأصل الإسلام، وهو عقيدته، وبذلك لا يوثق به وبكلامه وأمثاله.
- ومن ذلك المغترُّون بإعلام السلطة المضلِّل، والغثاء من كتابات عناصرها في المجلات والجرائد والإذاعات والقنوات، فيظنون التهويل واقعًا، والكذب صوابًا، والتدجيل حقًا، وأن السلطة بذلك على صواب، وينطلقون في أحكامهم وتحليلاتهم في السياسة الشرعية من هذا المنطلق، فيضلون بضلالها، ويصطدمون بمقاصد الشرع وآمال الشعب، ويؤولون فينحرفون، ويضرّون بالرأي الإسلامي العام ومقاصد الإسلام السامية والعادلة..
ومن آخر ذلك ما سمعته من عالم ومفكر إسلامي يكتب منذ أكثر من أربعين عاماً، وقد لاقت كتبه رواجاً طيباً بين المسلمين، ولكنه يقع في هذه الأخطاء مرة تلو الأخرى موافقة لما تعلن عنه السلطة، ويدخل في مجاهيل السياسة وأحابيل الحكومة، فيتخبط وينزل في آرائه إلى الحضيض، وقال في ثورة من الشعب على حاكمهم الدكتاتور الظالم المسلط على الناس، قال عمن قاموا بالثورة عليه: هؤلاء حثالة الناس!! وهم الأحرار المظلومون المقهورون.
فمثل هذا يفقد تلاميذه شيئاً فشيئاً، ولا يجد لكلماته صدى، إلا عند أنصار السلطة الذين ضلَّلوه بالإعلام وشباك الصيد ليقع فيها الأغرار، فوقع هو فيها، ونفَّذ مخططاتهم، وهو يحسب أنه أحسن صنعاً.
وتقاس على مثل هذا أمور لا تخفى... والمقال متعلق بما كتبته سابقاً بعنوان: أسباب انحراف العلماء والدعاة. والله أعلم.