صار الغالب على الشباب وغيرهم السهر إلى منتصف الليل وما بعده، ولم تكن هذه عادة سلفنا، إلا في طلب العلم والتفرغ له، ثم التحرك في الجهاد والحراسة في الثغور.
إن في سواد الليل، وضياء النهار، لحكمة من الخالق عز وجل. فقد جعل النوم سُباتاً، أي سكوناً وراحة للأبدان، ومأوى للناس والدواب، يلجأ كل إلى مأواه، وخاصة إذا سكن الليل فأظلم. وجعل النهار مضيئاً ليتكسَّب فيه الناس ويقضوا حوائجهم.
يقول ربنا سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [سورة يونس: 67].
فواضح أن الليل خلق للراحة والنوم، حيث يناسب الهدوء والظلام، والنهار للعمل والحركة، حيث يناسب الضياء والانتشار، وهو معنى تسخيرهما للإنسان: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ} [سورة النحل: 12].
فإذا انقلب الأمر إلى عكس، بأن جعل الإنسان من النهار نوماً وراحة، ومن الليل سهراً وعملاً، فإنه يكون مناقضًا ومخالفًا للأصل، ومضادًا لما سُخِّر له الليل والنهار.
وقد أثبت العلم الحديث ضرر القمر على جسم الإنسان بالليل، وضرر النوم الكثير بالنهار، الذي لا يجلب للجسم الراحة أصلاً مثلما يجلبها له بالليل... وكل شيء إذا انقلب إلى ضد الطبيعة والفطرة يكون له ضرر.
وهذا لا يعني أن المرء لا ينام بالنهار لتعب أصابه أو لقيلولة يقيلها، وأنه لا يعمل بالليل قط، ولكن القصد العموم، وهو قلب الأمر وعكس التسخير، وإضاءة الليل بحيث يكون مثل النهار، وكم يكلِّف هذا الدول من ملايين الملايين من الدنانير؟ والناس إذا لم يجدوا هذه الإضاءات المغرية لم يخرجوا من البيوت، وفضَّلوا النوم.
والأمر الطبيعي هو المطلوب، وهو ما عليه المسلم خاصة، متابعة لنظام الكون الذي هيأه الله تعالى للبشر، ومتابعة للشريعة واقتداء برسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، فقد ورد في صحيحي ابن خزيمة وابن حبّان من حديث عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلَّى العشاء تجوَّز بركعتين ثم ينام".
وإن النوم المبكر له فوائد كثيرة، لعمل الدنيا والآخرة، ففرق بين من يفيق ناشطاً قد أخذ راحته من النوم، ويقبل على العمل بنشاط وقوة، وبين آخر يقوم كسولاً متضجراً لا يكاد يرى أمامه من النعاس وثقل النفس، نتيجة السهر والنوم متأخراً، ومثل هذا لن يكون مقبلاً على عمله بنفس طيبة وروح مثابرة، ولا منتجًا كما هو مطلوب منه.
كما أن مثله غالباً لا يكون من أهل قيام الليل، وقد تفوته صلاة الفجر...
وهذه دراسة علمية طبية أسوقها للعبرة، ليزداد المسلم قناعة، وليعتبر غيره.
فقد كشفت دراسة طبية ألمانية عن وجود علاقة مؤكدة بين ارتفاع خطر إصابة النساء والرجال بمرضي سرطان الثدي والبروستاتا وعملهم ليلاً، أو تغييرهم نوبات دوامهم لمدة طويلة.
وذكرت الدراسة الصادرة عن مركز الطب البيئي وبحوث الوقاية الصحية بجامعة كولونيا أن العمل الليلي وتغيير نوبات الدوام لمدة طويلة يربك الوضع الحياتي الطبيعي للإنسان ويخرب ساعته البيولوجية وجهاز المناعة عنده لمدة طويلة؛ نتيجة تعطل إنتاج الجسم لهرمون الميلاتونين المقاوم لنمو الأورام السرطانية.
وأوضح المشرف على إعداد الدراسة أن هرمون الميلاتونين لا يعمل إلا أثناء النوم في الظلام فقط، وله وظيفة طبيعية واحدة، هي الاستفادة من الليل المظلم في تقوية الجهاز المناعي، ووقاية الجسم من الأورام الخبيثة، ومن بعض الأمراض.
واعتمدت دراسة جامعة كولونيا على دراسة سابقة صدرت عام 2007م، وساوت فيها الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية بين خطر الإصابة بالسرطان نتيجة التعرض للأشعة فيما يعرف باستديوهات حمامات الشمس الاصطناعية، وخطر الإصابة بالمرض الخبيث بسبب العمل ليلاً وتغيير نوبات الدوام.
وحللت الدراسة الألمانية نتائج ثلاثين دراسة عالمية مشابهة في الموضوع، وذكر معدوها في مستهلها أنه بات معروفًا على نطاق واسع أن السفر أو الحركة المؤقتة ليلاً يؤديان لفقدان الشهية والإرهاق الشديد وتعكير المزاج.
وفحصت الدراسة على مدار سنوات الحالة الصحية لـ240 ألف شخص يواظبون على أعمال ليلية أو يعملون في شركات للطيران، وخلص معدوها إلى أن العمل الليلي يزيد مخاطر نمو الأورام الخبيثة.
وحذرت الدراسة الراغبين في العمل الليلي من المخاطر المترتبة على هذا، ونبهت إلى أن "العمل الليلي يحرم الجسم من حقه في النوم الطبيعي الذي لا يمكن تعويض كميته أو فائدته بالنعاس بضع ساعات في ضوء النهار".
ودعت الدراسة أصحاب الأعمال -في حال الضرورة- إلى عدم تعيين عمال بالخدمة الليلية إلا من يتشابه طابعهم اليومي مع البوم، المتعود على الاستيقاظ والحركة ليلاً والخمود مع إشراق الشمس. وتفاءل معدو الدراسة الطبية من نجاح النتائج التي توصلوا لها في إقناع وزارة العمل الألمانية بمساواة المخاطر الناجمة عن العمل الليلي بنظيراتها التي يسببها التعرض للإشعاعات الضارة أو تدخين السجائر، وذكروا أن الدراسة تعد مسوغاً قانونيًا لمنح تعويض مادي للنساء أو الرجال الذين يصابون خلال العمل الليلي بسرطان الثدي أو البروستاتا. (الجزيرة نت 17 شوال 1431هـ باختصار).
إننا نحتاج إلى حملة إعلامية مكثفة من الدعاة والعلماء بالدعوة إلى النوم مبكراً، وتبصير الشباب والناس عامة في هذا العصر بفوائد الليل والحكمة منه، الذي خلق لأجل النوم والراحة، وفوائد النهار الذي خلق للكدِّ والمعاش.
وهذا على الأقل يفيد الملتزمين من أهل الإسلام، الذين يستجيبون إذا ذكِّروا، ويحاولون ويتمرَّنون، ويوصون أهلهم بذلك ويتابعون.