رحلة.. ومقال.. وتعقيب.. وجواب

الأستاذ محمد أكرم الندوي من أعلام عصرنا، علمًا وأدبًا، وقد أشدت بكتاباته المفيدة وبلاغته الرصينة، وأسلوبه السلس أكثر من مرة، ولا أزكيه على الله.

وهو الآن في عمرة، ورحلاته كثيرة، معظمها علمية، دعوية، ثقافية.

وقد كتب مقالًا، فأعقبت على كلام له فيه... وأجاب عليه... كما هو آت.. حفظه المولى.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

رحلة العمرة سنة 1444هـ

(13)

يوم الأحد 16 محرم 1444هـ (من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة)

 

بقلم: د. محمد أكرم الندوي

أوكسفورد

 

تعليق نافع من شيخ جليل:

         فضيلة الأستاذ محمد خير رمضان يوسف من شيوخنا الأجلة، عالم صالح، وكاتب قدير، ومؤلف شهير، تجمعنا بيننا الصداقة، وأحبه في الله تعالى، وقد ترجمت له في بعض رحلاتي، رآني في بعض مقالاتي أوجه طلابي إلى قراءة كتب طه حسين، فكتب إلي:

"توصية الطلبة بمطالعة كتب طه حسين فيه خطورة على عقيدتهم وأفكارهم، لأن أخطر الناس على الإسلام هو الفاسق العالم، وكان هو أخطر رجل على الثقافة الإسلامية في عصره، مؤيدًا من المستشرقين وحكومات الغرب عامة، ومن حكومة مصر بقيادة الخبيث جمال عبدالناصر، الذي جعله وزيرًا للمعارف ليبث أفكاره السامة في الطلبة؛ لينشؤوا عليها، ويخرج جيل جديد مشكك بالإسلام ونصوصه المقدسة. ولا يوجد دليل محكم على أنه ترك أفكاره السقيمة، التي فيها ما يخالف صريح القرآن، ولم يعرّج على السنة ألبتة. وأفضل من تكلم بهذا وقوّم شخصيته وبيّن عدم توبته هو العلامة أنور الجندي، المعروف بتحليله للشخصيات المصرية حتى الأعماق."

"والطلبة عندما يقرأون له لا يتأثرون بلغته فقط، بل بأفكاره أيضًا، وينظرون في كتبه الأخرى مما لا أدب في ولا دين."

"وفي تاريخنا الإسلامي وأدبنا الإسلامي المعاصر ما يغني عنه وعن أدبه الملغوم."

"وإذا لم تتأثر أنت بأفكاره فلا يعني أن غيرك مثلك لا يتأثرون، فليس كل الطلاب على درجة واحدة من العلم والفهم، والإدراك الصحيح، والوعي المقبول، والإيمان العميق، فمنهم من يتأثر بأدبه دون ثقافته، ومنهم من يتأثر بهما".

"ولا تستبعد هذا أيها الندويُّ الكريم، فقد كنت أحد هؤلاء، وقد قرأت لطه حسين كتبًا كثيرة، وأعجبتُ بأسلوبه السلس وأدبه السهل الممتنع، حتى أعجبت بأفكاره وثقافته، وسئلت قبيل نيل الشهادة الثانوية عما أريد أن أكون؟ فكانت أمنيتي أن أكون أحد تلامذة طه حسين! وأنقذني الله من هذه المهلكة عندما وفقني للتسجيل في كلية الشريعة، بمحض فضله، فأبدلني خيرًا منه ومن أدبه، ولم أعد ألتفت إليه."

"والأمر لا يتعلق بطه حسين وحده، فهناك آخرون يتفاعلون مع كتابات أدباء آخرين ولغتهم وأساليبهم، مثل بعض شعراء الحداثة، من الملحدين والليبراليين والمشككين، كأدونيس، وبعضهم يتعلق بشعر أبي نواس، ونزار قباني، المتخصصين في نشر الفاحشة".

"وأذكّر هنا أن أكبر شعراء الأكراد المعاصرين كان ملحدًا عصيًّا منكرًا للذات الإلهية (لقبه الذي اشتهر به جكر خوين، ويعني الكبد المدماة)، أما شعره فيسري في المجتمع الكردي سريان النار في الهشيم، وخاصة طبقة المثقفين، لحلاوته وجزالة ألفاظه ومعانيه التي تمس المجتمع الكردي وقضاياه وآلامه. فتأثر به الكثير جدًّا، وتحول كثير من مثقفيهم إلى رموز للإلحاد وأدوات للغرب، وعادوا الإسلام وأهله.. وصاروا من جند صلاح الدين إلى جنود حزب العمال الكردي (زعيمهم أوجلان الماركسي، التركي).. وكنت رأيته، وناقشته، ووصل به الأمر أن قال لي: إذا كان الله موجودًا فليحرك يدي!"

"فكنت أحذّر بعض زملائي من قراءة شعره وترديده والاستشهاد به في المجالس والمنتديات.. نظرًا للغته الرصينة وبلاغته وقوة تأثيره.. وخاصة في مجتمع متفلت، لا تجد له نظامًا، ولا اهتمامًا بالإسلام".

 

هذا كله من كلام شيخنا الحبيب الأثير العلامة محمد خير رمضان يوسف، وهو كلام يدل على سلامة صاحبه وسمو فكره وطهارة نفسه، والواجب علي وعلى أمثالي أن نخضع له بالقبول، ونستسلم له بالرضى، والشيخ أستاذ كريم نبيل يسمح لتلاميذه بتوجيه السؤال إليه وإبراز ما في نفوسهم من شبهات، فأضع كلامي هنا، لا لأعارض به شيخنا، هيهات هيهات أن يخطر على بالي وهم شبيه به، ولكن ليتبين له منشأ كلامي، فما أكتبه هنا ليسا جوابا، وإن كان جوابا فهو أضعف جواب، وما هذا بأول مثال للجواب الضعيف، فأقول مستعينا بالله تعالى:

أولا: لم يخلق الله تعالى المسلمين في حصون محصنة تزخر بالحسنات، وتحميها من السيئات، وإنما خلقهم في عالم فيه الشر والخير، والحسن والقبح، والصلاح والفساد، وأعطاهم الفطرة السليمة والعقل السديد والوحي المبارك، يستعينون بها في التمييز بين ما ينفعهم وما يضرهم.

ثانيا: جعل الله تعالى الشيطان قرينا للبشر، وهو أعدى عدو لهم، وسماه الله تعالى العدو المبين وحذرهم من مكايدهم، فلم يحبس الشيطان في جزيرة نائية، بل جعله يجري فيهم مجرى الدم، ثم فرض عليهم أن يخالفوا أمره ويجتنبوه.

ثالثا: إن المسلمين ما زالوا يقرأون الشعر الجاهلي، بل هو عمدتهم في معرفة لغة القرآن الكريم، وشعراء الجاهلية قيمهم ومثلهم، وهي تضاد الدين الحنيف أي مضادة، ولا حاجة إلى عرض هذه القيم هنا، فهي معروفة، فإن كان خير هذه الأمة فقهاؤها ومحدثوها أباحوا قراءة هذا الشعر المنحرف الضال المضل بل وشجعوا عليها فكيف بما دونها.

رابعا: إن الشعر الإسلامي أيضًا لمشتمل على المنكرات التي قد يكون البوح بها كفرا وفسقا، ومع ذلك فنقرأ شعر الحطيئة، وأبي نواس، والمتنبي، وأبي العلاء، وغيرهم.

خامسًا: إن النماذج النثرية من العهد الإسلامي التي تدرس في المدارس الإسلامية بل وتستظهر عن ظهر القلوب تستبطن مكايد وحيلا وتدسيسات تخالف طريق الصالحين أيما مخالفة، بل إن كتب سعدي الشيرازي والجامي بالفارسية تتضمن قصصا يتندى لها جبيل الحياء، ولو نقلت هنا منها قصة لكان أدب طه حسين بجانبها أدبا شريفا ساميا.

سادسًا: إننا حينما نوصي طلابنا بدراسة الأدب الجاهلي القديم أو الحديث، فإننا أيضًا ندرسهم القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والسيرة النبوية، والفقه وأصوله، وحياة الصحابة والتابعين، والفكر الإسلامي، فننشئ فيهم وعيا إسلاميا قويا، يأخذون من ذوي الجهل ما صفا، ويدعون منهم ما كدر.

وسابعا: إننا نرى أن ينشأ الطلبة تنشئة قوية، فإذا عاشوا مع اليهود أو النصارى أو الكفار والمشركين أو الفساق كانوا على بينة من أمرهم وقدروا على دعوتهم إلى دينهم، ولا نرى الطالب عالما بالدين إلا أن يكون عالما بضده، وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسلمين بتعلم الجاهلية حتى يتبين لهم فضل الإسلام.