كان الإمام الغزالي في العهد السلجوقي، وعاصر حروبًا صليبية ضد دولة الإسلام.
لاحظ الإمامُ التشتتَ الفكري والخلافات لدى الطبقة المثقفة من المجتمع الإسلامي، وقد قويت فرقٌ باطنية وأظهرت تآمرها، حتى قتلت وزير السلاجقة نظام الملك! كما انتشرت العلوم الفلسفية وتوابعها وأتت بثقافة غريبة على مجتمع المسلمين، وصار المشتغلون بها يظهرون الشبهات والشكوك ضد الثقافة الإسلامية وثوابتها. فأراد أن يحيي علوم الإسلام الحقيقية في وجهٍ تربوي جميل يناسب عصره، ويلائم ثقافة كل مسلم؛ ليجدد به الحياة الإسلامية والوعي لدى المسلمين. وقد حقق كثيرًا مما رمى إليه، عندما ألّف كتابه (إحياء علوم الدين)، الذي صار من أشهر كتب الإسلام على مرّ القرون، وأكثرها تأثيرًا في النفوس.
ولاحظتُ في عصرنا أحد أعلام الدعوة يقتفي أثره بخطوات واسعة، وهو العلامة محمد أحمد الراشد، الذي عرف بتنظيره وتأصيله لقواعد الدعوة الحركية، وخاصة في كتابيه (المنطلق) و(العوائق)، كما تميز بتتبع الرقائق في تراثنا الإسلامي، وجمع كثيرًا منها وصنفها وجعلها في كتب له، بل أفرد كتابًا كاملًا بعنوان (الرقائق)، بهدف تربية الشباب وربطهم بدينهم وتراثهم الروحي، وليبتعدوا به عن الثقافة الغربية المضللة، بل الملغمة والقاتلة، وليكون ما يقدم لهم بديلًا قويًّا مقبولًا ومناسبًا لهم...
وهو أسلوب تربوي محكم؛ لتربية العقول وتزكية النفوس، فإن الشباب خاصة يتعرضون من خلال وسائل الإعلام المكثفة إلى هجمات شرسة على دينهم وثقافتهم وتاريخهم؛ ليشككوهم فيها ويبعدوهم عنها، ولذلك فهم محتاجون إلى تحصين فكري، وترشيد ثقافي، في تخطيط وتأصيل محكم، لتقديم العلوم الإسلامية بسهولة وأسلوب رائق.
وكان آخر ما قام به الراشد ولم يطبع في أثناء حياته، هو اختصار كتاب الإمام الغزالي (إحياء علوم الدين) ليكون مناسبًا للعصر، مقتصرًا على المهم والمؤثّر، وسمّاه "نُقَى الإحياء"، وأعلاه: (إحياء فقه الدعوة)، وفي أدناه: (والإحياء هو أرقى وثيقة في التربية الإيمانية في تراثنا الإسلامي).
ومما قاله في مقدمته رحمه الله: "والذي أراه أن (نُقى الإحياء) مادامت قد صارت متناً، يليق أن تدور مواعظ الدعاة حول محوره، وأن يكون أداةَ النصح والترغيب والترهيب، فإن عملية تفعيل التربية تقتضي أن يتطوع داعية من أهل الفقه في كل مدينة أو محلة بمطالعته عدة مرات، حتى يقترب من حفظ آياته وأحاديثه، وأقوال الزهاد والصالحين، ليكون (؟) ذلك على مجموع الدعاة في مواعظ متتالية، ولتكون معاني الذكر والإنابة حيَّة وحاضرة في الحياة الفردية والجماعية، للدعاة ولعموم الناس، وكي تزكو النفوس وتدَع الغفلة، ويكون ذلك وفق نمط الوسطية من غير إرهاق وغُلُوّ، لأن الدعاة أو عموم المؤمنين لا ينفك أحدهم عن واجبات معاشية ومهنية، وعن أداء تخصصي، أو عن واجبات في إصلاح عياله، ولذلك نمارس مواعظنا للآخرين بالحُسنى، التي لا يكون فيها إفراط ولا تفريط". اهـ.
لقد عاش الراشد رحمه الله حياة دعوية عملية طويلة، وكان قياديًّا بارزًا فيها، ولعله أكثر من كتب في الدعوة، تنظيرًا وتطبيقًا، وحلًّا لمشكلاتها.
وحقَّ له أن يركز على ما يقوّي العقل بالإيمان الراسخ، والنفسَ بالتزكية، والقلبَ بالرقائق، فإن كثيرًا من خلافاتنا وأمراضنا الاجتماعية تحت الحكم العلماني المقيت من قلة التربية، أو انحرافها.
وما كتبه الراشد رحمه الله وخطط له بعد خبرة ومراس، يكون تجديدًا لخطة الإمام الغزالي بما يناسب عصرنا، وهو إحياء علوم الدين في القلوب، لتثبيت الإيمان، وإعلاء ثقافة الإسلام، وتربية النفوس وتزكيتها، وتجديد الوعي والإدراك لدى المسلمين.
وإذا استقرت هذه التربية المحكمة في النفوسِ قلّت الخلافات المتشعبة بين المثقفين، وهو ما يشكو مجتمعنا منه كثيرًا. وهذه التربية خير دواء للخلافات.
(محمد خير رمضان يوسف 25 صفر 1446 هـ)