الإشارةُ من طرفِ العينِ إلى أمرٍ سوءٍ أدبٌ منكرٌ لا يليقُ بخُلقِ المسلم.
ولكنه - مع الأسف - معمولٌ به وإن لم يكن في محيطٍ واسع، في مجتمعات، وفي مجالس خاصة، وبين الأصدقاء والندماء، في حركاتِ تهكمٍ واستهزاءٍ بالضحية دون أن يراهم، أو في أمورٍ أخرى أخطر من ذلك.
وتسمَّى هذ الإشارةُ (خائنة الأعين).
وقد جاءَ في حادثٍ من أحداثِ السيرةِ النبوية الشريفة، يومَ فتحِ مكة، حول عدمِ مبايعةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلمَ عبدالله بن سعد بن أبي السرح أولاً، وكان ممن أهدرَ دمه ولو وُجدَ متعلقًا بأستارِ الكعبة، فلما عَرف ذلك اختبأ عندَ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الناسَ للبيعة، جاء به عثمان حتى أوقفهُ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقال: يا رسولَ اللهِ، بايعْ عبدَالله.
فرفعَ رأسَه عليه الصلاةُ والسلام، فنظرَ إليه ثلاثًا، كلُّ ذلك يأبى. فبايعَهُ بعدَ الثلاث.
ثم أقبَل على أصحابِه عليه الصلاة والسلام فقال: "ما كان فيكم رجلٌ رشيدٌ يقومُ إلى هذا حيثُ رآني كفَفتُ يدي عن بيعتهِ فيقتله"؟
قالوا: وما يُدرينا يا رسولَ اللهِ ما في نفسِك، ألا أومأتَ إلينا بعينِكَ؟
قال "إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يكونَ له خائنةُ أعين".
(سنن النسائي (4067) وصحيح سننه (4078)، المستدرك للحاكم (4360) وصححه على شرط مسلم، مسند أبي يعلى (757) وذكر محققه الشيخ حسين أسد أن رجاله رجال الصحيح).
وأوردَ السندي في حاشيته على النسائي قول الخطابي في معنى هذا المصطلح: "هو أن يضمرَ في قلبهِ غيرَ ما يُظهرهُ للناس، فإذا كفَّ لسانَهُ وأومأ بعينه إلى ذلك فقد خان، وقد كان ظهورُ تلك الخيانة من قبيل عينه، فسميت خائنة الاعين". اهـ.
ويقول ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاويه (13/249): "وهذا مبالغة في استواء ظاهره وباطنه، وسره وعلانيته، وأنه لا يبطن خلاف ما يظهر على عادة المكارين المنافقين".
والخيانة لا تليق في عينٍ أو غيرها، فشأن المسلم الاستقامة، وله أن يستخدم وسائل أخرى لتحقيق ما يريد إذا اضطر إلى ذلك، كالتعريض، والتأجيل، والسكوت إلى حين، والإسناد إلى الغير ...
وقد كان عدم مبايعته صلى الله عليه وسلم ابنَ أبي السرح أولًا إشارةً إلى صحابته رضوان الله عليهم، ولكنهم لم يتنبهوا لذلك، أعني لم يدركوا مغزى تصرفه عليه الصلاة والسلام.
ويدرك المرء أن الإشارة من طرف العين قد تُنبِئ عن إضمار مكيدة أو غدر وإيقاع.. وهي مخيفة على كل حال، إذا كانت الأجواءُ ملبَّدة، وغيرُ مقبولة عند أهل الحِلم والعلم والأدب..
ويذكر هنا ما يستثنى منه، وهو أن يكونَ الأمرُ مباحًا، أو يومَأُ إلى خير، في أحوالٍ لأهل الإحسان والكرم، فيشير أحدهم إلى خادمه أو محبه لإحضار الأمانة أو الوديعة المتفق بينهم سابقًا.. لإعطائه الضيف أو المحتفَى به..
أو يكون هناك إجراءات صلح في ظروف وأحوال متفاوتة..
وكذلك ما كان منه مزاحًا مقبولًا.
ويقال عمومًا: إن هذه الإشارة مباحة إذا كان الأمر المؤشر إليه مباحًا، وحرامٌ إذا كان المؤشر إليه حرامًا.
وقرأتُ في فقهٍ شيعي أنه يجوز للمصلي النظر بطرف عينه..
والإشارة بطرف العين غير جائز للرسول صلى الله عليه وسلم كما مرّ، ولو كان الأمر حلالًا! وهذا من (خصائصه) عليه الصلاة والسلام.
وقد عدَّه القرطبي أحد الأمور العشرة المحرمة عليه صلى الله عليه وسلم، كما في تفسيره 3/598.
ويقول الشيخ عليش في كتابه "منح الجليل شرح مختصر خليل" 3/249، وهو في الفقه المالكي:
"وخُصَّ بحرمة (خائنة الأعين)، أي: إظهار خلاف ما في ضميره، فشبه بالخيانة في الإخفاء أو الانخداع عما وجب. والأول محرم عليه صلى الله عليه وسلم في غير الحروب. وحديث "إنا لنبَشُّ في وجوهِ قومٍ وقلوبُنا تلعنهم"، من قبيل الحرب معنى. و"نبَشُّ" بفتح الموحدة من باب علم. وقد أُبيح له إذا أراد سفر الغزو التوريةُ بغيره حذرًا من إفساد المنافقين، فكان يَسأل عن حال جهة غير التي أراد غزوها، ليخفي عنهم التي أرادها، حتى لا يتمكنوا من إفساد ما نواه صلى الله عليه وسلم". اهـ.
وملخص الأمر في الحظر والإباحة ما ذكره البهوتي رحمه الله في كشاف القناع، بقوله: "ومُنع صلى الله عليه وسلم من الرمز بالعين والإشارة بها لحديث "ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين". رواه أبو داود وصححه الحاكم على شرط مسلم. وهي الإيماء إلى مباح، من نحو ضرب وقتل، على خلاف ما هو الظاهر. وسمي (خائنة الأعين) لشبهه بالخيانة بإخفائه. ولا يحرم ذلك على غيره إلا في محظور". اهـ.
وتوسع السبكي رحمه الله في فتاويه (1/113)، وفيه ردّ على الزمخشري وغيره، فكان مما قال: فانظر، ابنُ أبي سرح كان قتله حلالًا، ولو أومأ إليه أومأ إلى ما يحلّ لا إلى ما لا يحلّ، ولكن الأنبياء لعلوّ منزلتهم لا يبطنون خلاف ما يظهرون، فكان من خصائصهم تحريمُ ذلك، وهو حلال في حق غيرهم، ولو كانت خائنة الأعين هي النظرة إلى ما لا يحلّ كانت حرامًا في حق كل أحد، ولم تكن من الخصائص، فلما كانت من الخصائص عُلم أن الأمر ليس كما قال الزمخشري، وإنما هي الإيماء إلى ما لا يتفطن له المومأ في حقه. ولعل تسميتها (خائنة) لأن مقتضى المجالسة والمكالمة المصافاةُ ظاهرًا وباطنًا، فاستواء الظاهر والباطن في حق المتجالسين والمتخاطبين أمر يقتضيه أدبُ الصحبة والمجالسة والمخاطبة وكأنه أمانة، ومخالفةُ الأمانة خيانة".
ثم إن النظرَ من طرفِ العين إلى حرام لئلا يراه أحد أمر لا يخفى على المسلم حرمته. يقول ربنا سبحانه محذرًا من ذلك، ومبيِّنًا أنه يعلم ما تشير إليه عينه وما يسرُّه في صدره: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [سورة غافر: 19].
يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله في خواطره التفسيرية: "يعني: اعلموا أن عِلْمَ الله شامل ولا يخفى عليه شيء مهما دقَّ، فإنْ عمَّيتم على خلق الله في الدنيا واختلستم النظرات فيما لا يحل لكم، فاعلموا أنكم لا تخفَون على الله. ولو أيقن المؤمن بشمول علم الله وبنظره إليه ما كانت له خائنة أعين".
ويطولُ الحديثُ في هذا الأخير، والمقصودُ منه أوله.