رحم الله عمر... كيف قالها؟!

هناك أقوال وآثار خالدة تجد لها مكاناً عميقاً في القلوب والنفوس، ويبقى فيها أثرها ولا تزول، وينشأ عليها الأطفال، ويرددها الشباب، ويصدح بها أهل العلم، ولا يزال يلقيها الخطباء والمعلِّمون على المنابر وفي الدروس على أسماع الناس...

هي كلمات مركَّزة، لكنها تحمل معاني عظيمة... ولذلك يفتخر بها أفراد هذه الأمة. إنها أشبه بأدب الوصايا والحِكم، ولكنها آثار وأقوال وأخبار تروى لتتربى عليها الأجيال، وقواعد تكرَّس لتطبَّق في واقع الأمة...

وما زالت مجتمعاتنا بحاجة إليها، في جوانب العلم والإيمان، والفكر والسياسة، والبيئة والمجتمع.

ومنذ أمد وأنا أرى واقعاً يومياً أعيشه ويعيشه الناس، ويلقون من جرّائه العنت، والأثر السيء والمؤلم، ولكنه لا يتغير، وكأنه صار واقعاً لا بدَّ من التعايش معه!!

وهو ما نراه في شوارعنا وأزقَّتنا، كلها أو كثير منها. وهي هذه الآثار المعدنية والخشبية، والأحجار والحصى، وأشياء مكسورة من الزجاج والمواد المصنَّعة حديثاً من اللكِّ والخزف والجص وما إليها..

وخاصة فيما حول العمائر والبنايات التي تهدم لتبنى من جديد، أو ترمم، أو مشاريع بناء جديدة، وهي كثيرة، ولا تنتهي، وقد تمتدُّ الآثار التي حواليها سنوات، وتتساهل معها البلديات لأسباب.. ولكن الناس يتأذون منها، وتسبِّبُ خسائر مالية للمئات والآلاف من البشر، هذا عدا الجروح والأمراض التي تسببها إذا كانت حادّة أو ملوثة..

وقد لا أبالغُ إذا قلتُ إن أكثر أسباب انفجار عجلات السيارات هي المسامير والآلات الحادة المنتشرة في الشوارع، وليتذكر كل صاحب سيارة كم مرة انفجرت إطارات سيارته، وكم مرة رأى صاحبَ "البنشر" وهو ينزع المسامير منها بالكُلاّب، وإذا جمع عددها فيكون هائلاً، وإذا جمع إليها الخسائر المالية من جرّاءِ ذلك كانت كثيرة، وخاصة أن العجلة إذا أصابها عطب فقد لا تصلح إلا للتجوال في المدينة، وفي السفر تغيَّر لطلب السلامة..

وعلى جوانب ومسافات من الأرصفة ترى قواعد لإشارات المرور وما إليها وقد قطعت، أو وضع عليها صفيحة حديدية لتركَّب عليها إشارة من بعد، وتبقى هذه الآثار سنوات وسنوات، فلا هي تقتلع من أصلها، ولا يركَّب عليها إشارة مرور. والأرصفة هُيِّأت للمشي عليها، والعادة أن تكون سليمة مستوية، فلا ينظر المرء أمامه من هذا المنطلق، ولذلك تجد كثيراً ما يُصطدم بهذه القواعد الحديدية القوية، وقد سببت آلاماً وجروحاً لناس كثيرين.

 وقد أحببت أن أتلمس أرصفة ينبغي أن تكون أبعدها عن هذه الآثار، وهي التي تكون حول المستشفيات، حيث المرضى والعجلات والأسرَّة الطبية المتنقلة، فذرعت أمتاراً حول أرصفة أكبر مستشفى بالعاصمة، فرأيت العشرات من قواعد إشارات المرور مغروزة فيها، وهي كذلك منذ سنوات! وفي مكة المكرمة لاحظتُ أنها مسوَّاة بالأرض، وهو ما لا بدَّ منه، لكثرة المسير عليها من قِبلِ ضيوف الرحمن، فجزَى الله القائمين عليها خير الجزاء.

وقد كان من نصيبي مرة أن أصاب في الإصبع الكبرى من رجلي، فكنت في شارع شعبي مكتظ، أبحث عن حاجة للبيت في المحلات، فاصطدمت بأثر معدني كان مثبتًا في وسط الرصيف، وسال من الإصبع دمٌ كثير، حتى كاد أن يمنعني من المشي، حيث كانت الرجل تنزلق على الحذاء لاجتماع الدم عليه، ولم ينفع ما وضعته عليه من مناديل أو أوراق!

لقد ذكَّرني هذا كله بما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في أثر حفظته وأنا طفل وما زال يتردد في جنبات نفسي، وهو قوله: "لو أن دابة عثرت في العراق لسألني الله عنها لِمَ لمْ تسوِّ لها الطريق يا عمر

نعم، سيُسأل لأنه لم يمهِّد الطريق لهذه الدابة، ولم يقم بحقها، فإن من حقها أن تمشي في طريق سوي، أو شارع خال من الأحجار وما إليها..

إذاً فكيف بالبشر؟ أليست المسؤولية أكبر؟ وأين هم المسؤولون الذين يرون بأم أعينهم هذه المسامير والدبابيس والزجاج وآثار الخزف الحادة وما إليها وهي متناثرة في الشوارع، عدا الأرصفة التي ذكرت ما بها، ألا يشعرون بأنهم مسؤولون أمام الله؟ ولكن أين قلوب المسؤولين من قلب عمر الخاشع المتبتل، الذي ما زال يبكي خوفاً من الحساب، وهو يستشعر عظم المسؤولية الملقاة عليه؟

فكيف لو أنه كان في عصرنا ورأى ما رأى؟

إن مسؤولية نظافة الشوارع والأرصفة مشتركة بين: أصحاب الأعمال من الذين ينفذون المشاريع البنائية وما إليها، وبين الدولة المسؤولة عن نظافتها أولاً، وبين الأفراد، الذين يشاركون في إزالة الأذى عن طريق الناس، لأنهم يعلمون أن "إماطة الأذى" شعبة من شعب الإيمان، كما ورد في الحديث الصحيح. فالمسلم إذا رأى بنفسه هذه الآلات الحادة والمؤذية في الطرق، فإنه يشارك بما يقدر عليه في إبعادها، أو إخبار المسؤولين عنها، حتى يخفف الآلام والخسائر عن أهل دينه ووطنهم. أما الذين يكونون سبباً فيها، مثل أصحاب الأعمال والمشاريع البنائية، فإنهم يأثمون، ويعرِّضون أنفسهم لعقوبة ربانية قبل عقوبة مدنية.

وكان الله في عون الجميع... ورحم الله عُمر... كيف قالها؟